تكفير من نوع آخر!

الرابط المختصر
Image
تكفير من نوع آخر!

سبق أن كتبت مقالات كثيرة في رفض منهج التكفير والغلو الذي يقع فيه بعض الشباب، وأن التكفير المنفلت من ضوابط العلم والشريعة هو سلاح خطير يتم التلاعب به من الداخل والخارج، لتفتيت وحدة الأمة وإشغالها بصراعات فكرية أو حوادث عنف واغتيال وتفجير تدخل الدول والشعوب معها في دوامة من الصراعات الدامية تستنزف العقول والقلوب والأرواح والأموال والأمن والإيمان ولا تستفيد الأمة منها شيئا.
وبحمد الله أصبح هناك وعي مجتمعي بخطورة منهج العنف بشكل عام، لكن مع الأسف لم يصل هذا الوعي للآن بشكل مناسب للشباب، الذين هم وقود هذه الفتنة العمياء، وذلك بسبب فشل السياسات الحكومية على المستوى الديني والتعليمي والثقافي والأمني، وبسبب تقصير الجماعات والتيارات الإسلامية المختلفة، وبسبب سياسات الجهات العلمانية المتطرفة التي تتقصد استفزاز هؤلاء الشباب لتوريطهم في ردات فعل سيئة تدينهم وتشوههم، مما يفتح لها المجال للتمكن في الواقع للتعويض عن الرفض الشعبي لها والمتمثل في الفشل الدائم في الانتخابات العامة.
ومن السياسات الحكومية الخاطئة معالجة التكفير بالتكفير! وذلك عبر تقديم ورعاية ما يعرف بجماعة الأحباش، حيث يلخص لنا الزميل د. محمد أبو رمان هذه السياسة في دراسته المعنونة بـ "العلمانية المحافظة النموذج الأردني في إدارة العلاقة بين الدين والدولة" بقوله: "في مقابل الوضوح الذي تبدو عليه علاقة الدولة بكلٍّ من الإخوان والسلفيين، مهما اختلفت صيغها واتجاهاتها، فإنّ الموقف من جماعة الأحباش يتخذ طابعاً غامضاً وملتبساً.
... ما يعنينا هنا طبيعة السياسة الرسمية تجاه هذه الجماعة، إذ كانت تحظى إلى قبل أعوام بدعم رسمي يسمح لهم بالنشاط والعمل في المساجد وافتتاح الجمعيات والمدارس وتأسيس فرق الأناشيد الإسلامية، والتغلغل في المؤسسات الدينية بلا حسيب ولا رقيب.
بل كان الانطباع العام (وفي الواقع الانطباع أقوى تأثيراً من الحقيقة) بأنّ الجماعة “محصّنة” من النقد الإعلامي والسياسي، وأنّها تحظى بحظوة ونفوذ لدى شخصيات سياسية متنفذة في الدولة والمجتمع.
... من الواضح أنّ “الدلال” الذي حظي به الأحباش في البداية يعود لأسباب سياسية وأمنية، وكجزء من استراتيجية الدولة في تحجيم الإخوان وإضعافهم من خلال دعم “الخيارات الإسلامية” الأخرى في المجتمع، ومنحها منابر التأثير والوعظ والتأثير الاجتماعي، بعد إقصاء الإخوان عنها، وهي الخدمات التي لم يتردد الأحباش بتقديمها سواء في خطابهم السياسي والفكري المعادي للإخوان أو من خلال مشاكسة الجماعة في المساجد والمدارس وميادين العمل الاجتماعي والدعوي الأخرى" إ.هـ
وكان تقرير معهد راند "الإسلاميين المعتدلين" لعام 2007م، تركزت توصياته على إعادة استخدام أسلوب قديم سبق تجربته إبان الحرب الباردة، عبر دعم مجموعات من اليساريين غير المرتبطين بروسيا، وقد قدم التقرير ملخص لهذا الأسلوب وكيف يمكن تطبيقه على الحالة الإسلامية، ويرشح لذلك التيار الصوفي وجماعة الأحباش ومجموعات الإسلام المدني والعلماني والليبرالي!!!
والداعمون لهذه السياسة يريدون معالجة تكفير الحكام والأنظمة والجيش والشرطة الذي يتبناه تنظيم القاعدة وأخواته وأسلافه من تنظيمات التطرف والغلو، برعاية تيار ديني يكفر مخالفيه من العلماء والناس!
وبحسب موسوعة "الحركات الإسلامية في الوطن العربي" - والتي أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بإشراف د. عماد عبد الغني- فهذا التيار قد برز في لبنان سنة 1983، وتقول الموسوعة عنهم: "اشتهروا في بداية تأسيسهم بالنزعة التكفيرية، وإن كانت هذه النزعة تتجه نحو الأفراد، وليس المجتمعات، كما هو حال الطرح القطبي، فهم كانوا يتتبعون الألفاظ الكفرية والمفاهيم السائدة عند الناس والمتناقضة مع الإسلام، بحسب رؤيتهم، بهدف تصحيحها ومنع تداولها عن طريق تكفير مستخدميها. بل إنهم اتجهوا نحو تكفير الداعين للتدخل في شؤون السياسة، بمن فيهم التنظيمات السياسية الإسلامية المتحدرة من نسب الإخوان المسلمين والسلفيين عموماً".
وعن ارتباطات هذا التيار تقول الموسوعة: "على مدى عقدين من الزمن، بقي لافتاً ذلك الارتباط الوثيق بين الأحباش والنظام السوري، وكان لافتا الدعم الكبير والخدمات والتغطيات التي قدمت لهم في مرحلة ما بعد الطائف".
وجماعة الأحباش، التي تنسب لشيخها عبد الله الهرري الحبشي، تتكاثر الشكاوى منهم في المساجد بسبب ظاهرة التكفير المسيطرة عليهم، فهم يكفّرون الإمام ابن تيمية علناً في خطب الجمعة!! ومَن يناقشهم في أفكارهم لا يترددون في تكفيره، وهذا تكرر كثيراً في مساجدنا.
وهذا التكفير لا يقتصر على خصومهم السلفيين، بل قد طال التكفير عندهم كثيرا من العلماء والرموز الإسلامية أمثال: د. البوطي، والشيخ الشعراوي، والشيخ سيد سابق، والشيخ يوسف القرضاوي، وعمرو خالد، ومفتي لبنان السابق الشيخ حسن خالد، ومفتي جبل لبنان الشيخ محمد الجوزو، والأستاذ عز الدين بليق، والشيخ حسن قاطرجي، والشيخ رجب ديب، وغيرهم كثير.
ولم يقف الأمر عند حد التكفير والتخوين والإسقاط بل وصل لتأليف كتب خاصة لهذه الغاية، مثل: كتاب "خالد الجندي في ميزان العقل والنقل"، لأسامة السيد، وكتاب "عمرو خالد في ميزان الشريعة"، قسم الأبحاث بجمعية المشاريع، وكتاب "الرد العلمي على البوطي"، لأسامة السيد، وكتاب "التنظيم النسائي السري"، لأسامة السيد، والذي يهاجم فيه جماعة فادية الطباع والمعروفة باسم "الطباعيات".
ثم تطور هذا المنهج التكفيري لسلوك عنيف، فشهدت مساجد بيروت استيلاء الأحباش على بعض المساجد التابعة لدار الفتوى في لبنان مثل مسجد الجامعة العربية ومسجد المصيطبة سنة 1994، والاستقلال بشؤونها! ثم وقعت منهم مصادمات كثيرة مع المصلين المعترضين على طريقتهم في إقامة الشعائر الإسلامية وإدارة المساجد، ثم حاول الأحباش الاستيلاء على دار الفتوى في لبنان وتنصيب رجلهم نزار الحلبي مفتيا للبنان!
ثم تطور السلوك العنيف مع المخالفين الذين كفروهم إلى حد أنهم أصبحوا المتهمين باغتيال الشيخ صبحي الصالح رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في لبنان في عام 1986، واغتيال المفتي الشيخ حسن خالد، الذي قتل بانفجار سيارته عام 1989، والشيخ أسامة القصاص. واتهم تقرير ميليس بعض أعضاء الأحباش بالتورط في جريمة مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005.
وحين انتفض الشارع اللبناني عقب اغتيال الحريري وأجبر النظام السوري على الخروج من لبنان، خرج الأحباش معترضين على ذلك في مظاهرة عرفت باسم مظاهرة "السواطير" حيث رفعوا السواطير غضبا على رحيل الجيش السوري من لبنان والذي كان يعطيهم الحماية والنفوذ.
وهذا المنهج التكفيري والسلوك العنيف لم يقتصر على الأحباش في لبنان، بل هو صفة ملازمة لهم في كل بلد وصلوا إليه، وأخبار ذلك مبثوثة في شبكة الإنترنت والدراسات التي تناولتهم بالتفصيل.
وهنا في الأردن وقعت حوادث كثيرة مع الأحباش، من تكفير على منابر المساجد إلى صدامات في المساجد مع المصلين والأئمة، حتى قام بعض النواب بطرح هذه المشاكل تحت قبة البرلمان سنة 2001.
الخلاصة أن السماح لهذا التكفير أن يتمدد في المساجد والجامعات والمجتمع هو قنبلة موقوتة وستنفجر يوماً ما، ولن تكون العواقب حسنة عند ذلك، إن من الحكمة والعقل معالجة هذا الخلل التكفيري مبكراً، حتى لا نتسبب بصراعات أهلية ودينية تفرق صفنا وتشتت شملنا بسبب تشدد لفظي أو رؤية مغلوطة عند الأحباش، بما يتصادم ويتناقض بشكل مباشر مع "رسالة عمان" التي جاءت لترسيخ الأمن والسلم المجتمعي.