تميز وتفرد عقلانية منهج علماء الحديث على منهج الحداثيين

الرابط المختصر
Image
تميز وتفرد عقلانية منهج علماء الحديث على منهج الحداثيين

في خضم الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي الذي يُشن على أمة الإسلام من جهات عديدة فإن هناك صراعاً منهجياً أكبر وأخطر يشن على الإسلام والمسلمين من الداخل والخارج يتعلق بالصراع على منهج المعرفة الحقة، هل هو منهج الإسلام القائم على الوحي الرباني المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، والذي يحمل لواء الدفاع عنه عموم علماء المسلمين وعلماء الحديث على وجه الخصوص، أم هو منهج الحداثة الغربية المادي؟
ومن هنا تتبين خطورة الصراع الشرس لضرب منهج المعرفة الإسلامي الذي يقوم على اعتبار القرآن الكريم والسنة النبوية مرجعية المعرفة المطلقة وتُنزل العلم المادي مكانته الصحيحة فيما يخصه من مجالات، ومن هنا يتبين لنا سبب إصرار الحداثيين -على مختلف شرائحهم- على التشكيك بسلامة النص القرآني أو صحة السنة النبوية، أو محاولاتهم المحمومة لتحريف وتبديل أصول فهم القرآن الكريم والسنة النبوية التي سنّها علماء الإسلام الفحول عبر العصور، أو حملاتهم المتكررة لنفي الدور المرجعي والتشريعي للقرآن الكريم والسنة النبوية وجعلهما نصا كسائر النصوص البشرية تمثل وجهة نظر لقائلها فحسب، وليست لها صفة إلزامية رغم أنها وحي رباني!
لكشف جانب من جوانب هذه الحرب الفكرية على منهجية المعرفة الإسلامية أصدر –مؤخراً- الأستاذ الدكتور المبدع علي العجين، من جامعة آل البيت في الأردن، كتاباً قيماً بعنوان "بطلان عقلانية ما يسمى بـ المدرسة العقلية وصحة ومنهج المحدثين العقلي" عن الدار الأثرية بالأردن.
والكتاب يقوم على محورين، الأول منهما بيان تميز وتفرد منهج المحدثين العقلي في تناول قضية إثبات  السنة النبوية والحرص على سلامة النص النبوي وتنقيته من الأخطاء والأوهام والكذب، ومنهج المحدثين العقلي العلمي الذي تميزت به أمة الإسلام على سائر الأمم التي لم تتمكن من حفظ نصوصها المقدسة بشكل سليم وتام كما حصل مع القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه قضية مسلّم بها لدى كل الباحثين المختصين في علوم مقارنة الأديان.
والمحور الثاني هو الكشف عن خلل عقلانية من ادّعوا نقد السنة النبوية اعتماداً على الجانب العقلي والعلوم التاريخية والنقدية الغربية والحداثية من خلال نقد ثلاثة نماذج هم: محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد"، وطه جابر العلواني في كتابه "إشكالية السنة النبوية"، ومحمد الغزالي في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث".
وسأحاول عرض خلاصة الكتاب للقارئ الكريم مع عدم الالتزام بترتيب فصول المؤلف لتقريب الفكرة وتوضيح كامل الصورة لغير المختص بعلم الحديث.
فبخصوص المحور الأول يرشدنا د. العجين إلى أن علم الحديث الشريف وعلم مصطلح الحديث هو في الأصل علم عقلي موضوعي وليس علماً دينياً، ويهدف للتأكد من صحة الرواية الواردة عن المعصوم عليه الصلاة والسلام من جهة وسيلة الوصول (الرواة = السند) ومن جهة المضمون (الرواية = المتن).
وقد توصل العلماء المحدثون لمجموعة من الشروط العقلية ينبغي توفرها في الرواية سنداً ومتناً لتكون رواية صحيحة مقبولة وهي: عدالة الرواة وتعني أنهم موثوقون في دينهم وغير كذابين، والاتصال ويعنى أن الرواة بينهم علاقة وصِلة يمكن من خلالها انتقال الرواية بينهم، ولضبط ويعنى اتصافهم بالحفظ وعدم النسيان والوهم، وانتفاء الشذوذ ويعني أن تخالف رواية الفرد رواية الجماعة أو من هو أحفظ منه وأوثق، وانتفاء العلة، أي أن لا يكون في الرواية -برغم سلامة ظاهر سندها- علة خفيّة في المضمون كتبديل اسم أو كلمة أو معلومة خطأ.
ومن هذه الشروط يتبين لنا شمولية التفكير النقدي لعلماء الحديث، حيث احتاطوا لكل حالات نقل الرواية وسدوا كل باب يمكن من خلاله تطرق الخلل لها في السند أو المتن، ونلاحظ في الشرط الأخير انتفاء العلة، أي أن المحدثين هنا مارسوا ما سماه د. العجين نقد النقد أو نقد ما بعد النقد، فبرغم أن سلسلة الرواة -والتي تعرف بالسند- قد خضعت للفحص والنقد ونجحت فإن الرواية أخضعت مرة أخرى لنقد جديد يتعلق بالمتن، فقورنت الرواية مع بقية الروايات المشابهة لها من ناحية المضمون فإذا وجد في رواية منها لفظة تخالف بقية الروايات حكم عليها بالرد بسبب هذه العلة، ويعد علم العلل من أدق وأعلى علوم الحديث الشريف.
ولتطبيق هذه الشروط على الروايات الحديثية قامت جهود ضخمة شكلت علوما فرعية كعلم الرجال وعلم المصطلح وعلم العلل وغيرها، وأنتجت هذه العلوم كميات وافرة من الكتب والمصنفات تعالج كل جزئية من جزئيات تطبيق هذه الشروط، وقد مثل د. العجين بكتاب الإمام مسلم "التمييز" لبيان نموذج من تطبيق المحدثين المبكر لنقد النقد ونقد المتن، ولاحظ د. العجين اسم الكتاب "التمييز" لبيان وعي الإمام مسلم بعملية النقد المركب التي يقوم بها للروايات، وبين د. العجين أن هذا الكتاب وعلم العلم يطابق اليوم ما يسمى بالتفكير الناقد والذي يعد أعلى مراحل التفكير.
والمهم في كل هذا أن جهد المحدثين هو جهد إسلامى أصيل وذاتي وليس فيه أي استفادة من ثقافات أخرى، وبذلك يكشف لنا عن ضخامة الفكر العقلي والنقدي الذي وصل له المسلمون وتفردوا به على مستوى العالم –لليوم-، وهذا مما ينبغي الاعتزاز به والفخر، وقد عجزت كل النظريات النقدية الغربية والحداثية عن الوصول لدقته وموثوقيته ومنهجيته ولذلك لا نلبث كل مدة أن نسمع عن ولادة نظريات نقدية تنسف جهود ما قبلها!
وبخصوص المحور الثاني وهو نقد جهود ما تسمى المدرسة العقلية التي تنسب للشيخ محمد عبده والتي عاصرت فترةً شهدت فيها بلاد الإسلام حالة من الهزيمة والغزو والاستعمار التي ولدت هزيمة نفسية وزعزعة داخلية فاقم منها استفحال الجهل والخرافة بين عموم المسلمين بسبب هيمنة التصوف على المسلمين حيث كان المتصوفة يحاربون العلم ويرسخون الدجل والشعوذة، وقد عانى منهم الشيخ عبده كثيرا وحاربهم وبسبب ذلك رضخ وتلاميذه للهيمنة الغربية العلمية فنبذوا أشياء في السنة النبوية تحت مطرقة التفوق العلمي الغربي الاستعماري  وسندان التخلف والجهل الصوفي.
ومن أمثلة ذلك محاولة محمد هيكل باشا نصرة الإسلام بتقديم سيرة نبوية للغرب المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم تعتمد على المنهج العلمي الغربي باعتباره المعيار السليم! فاقتصر هيكل في سيرته على القرآن الكريم، وما يقبله عقله من الروايات، واعتبر ذلك هو المنهج العقلي السليم!
فقام د. العجين بتلخيص الردود العقلية على هيكل للشيخ مصطفى صبري من كتابه "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، ولعل من أهم الردود المفحمة للشيخ مصطفى أن هيكل رفض المعجزات الحسية كانشقاق القمر وإبادة جيش أبرهة بدعوى أنها تخالف العقل، لكن هذه المعجزات وردَت في القرآن الكريم، وهو قد اشترط أن يقبل ما جاء في القرآن!
وبهذا يتبين خلل وتناقض منهج هيكل ومن وافقه، فإنهم لم يعتمدوا القرآن كما زعموا، وما رفضوه من روايات السنة بدعوى العقلانية أثبتها القرآن! ولذلك لجأوا لتأويل وتحريف معنى الآيات القرآنية، وبهذا يتضح أن الخضوع والهزيمة النفسية للغربيين هما المنهج المتبع!
أما طه العلواني فهو نموذج لتبدل المنهج والتأثر بالضغط والهيمنة الاستشراقية والحداثية تحت وطأة الهزيمة الحضارية، فهو يهاجم السنة اليوم بنفس المنطق الاستشراقي والحداثي بعد أن قدّم قبل 30 عام لكتاب شيخه د. عبد الغني عبد الخالق عن "حجية السنة النبوية" بما يبطل المزاعم الاستشراقية، والعجيب أن كتاب شيخه وكتابه المناقض له صدرا عن نفس المعهد العالمي للفكر الإسلامي!
وختاماً؛ فإن هؤلاء الفضلاء إنما أرادوا نصرة الإسلام لكنهم رضخوا للرؤية الحداثية فلفقوا منهجا هجينا لا قيمة له كما فصّل ذلك د. العجين وغيره من المتخصصين، ومن جهة أخرى فإنهم فعلوا ذلك لتقريب الغربيين للإسلام، فهل فعلاً ساهمت هذه الخلطة البائسة في خدمة الدين وإدخال الناس في الإسلام؟ أم أنها كانت جسراً عبَر به الحداثيون لشباب الإسلام فجرّوهم للضلال والإلحاد؟ ومع كل هذا فإن الحداثيين العلمانيين لم يقبلوا بهم ولم يحترموهم، وبذلك لم يصلوا لمرادهم ولم يحافظوا على أصالة المنهج المعرفي العقلي الإسلامى، والله المستعان.