انشغل مجتمعنا الأردني في الأسبوعين الماضيين بدعوة حيدر الزبن مدير مؤسسة المواصفات والمقاييس المجتمع الأردني للتوجه لصناعة الخمر وتصديره من الأرض المباركة كحل للمشكلة الاقتصادية الأردنية، وذلك عبر شاشة التلفزيون الرسمي. وقد لقيت هذه الدعوة رفضا شعبيا وإسلاميا لكون هذه الدعوة مخالفة للشريعة الإسلامية والأخلاق الحميدة، وبالغ البعض في شخصنة الموضوع تجاه الزبن، بالرغم من أن واقع الخمر في الأردن أكبر من الزبن، وبالمقابل خرجت أصوات تدافع عن دعوة الزبن وترى فيها فكرة جديرة بالاحترام والتأمل! وأخذت توزع الاتهامات على المعارضين للخمر بأنهم دواعش!! في انتهازية سخيفة. وهذا الجدل الكبير يصلح أن يكون نموذجا لفهم تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية العلمانية في مجال السياسة والاقتصاد والأخلاق والمجتمع والصحة والدين طبعاً. فالإسلام يتميز بأنه دين شامل ومتكامل، لا تنفصل فيه العبادات عن الحياة كحال العلمانية، والعبادة في الإسلام لا تقتصر على الشعائر والطقوس كما هو الحال لدى بعض الديانات الأخرى، بل الحياة بمظاهرها كلها جزء من العبادة، قال تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" (الأنعام: 162)، ولذلك كان تعريف العبادة كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، هو: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، وبذلك تشمل العبادات / الشعائر كالصلاة والصوم والحج، وتشمل الأخلاق وتشمل المعاملات كالبيع والشراء إذا كانت بصدق وعدل وتتوافق مع أحكام الشرع، وتشمل رعاية الأسرة والعناية بالأبناء، وتشمل العناية بالبيئة، وتشمل نشر العلم والمعرفة، وتشمل رعاية العمران والدول والحضارة، وتشمل الحكم بين الناس بالعدل والشرع، وتشمل حماية الضعفاء ورد كيد الأعداء وصيانة البلاد من الدخلاء، وغير ذلك كثير. والعبادة أو الشعائر في الإسلام تتنوع أيضاً، بين عبادات قلبية كالإخلاص واليقين والرجاء، وعبادات بدنية كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والذكر، وعبادات مالية كالزكاة والصدقة والكفارات، وعبادات بدنية مالية كالحج والأضحية. ومن العبادات ما له مكان خاص كالحج، ومنها ما يستغرق المكان كله كالذكر والإيمان، ومن العبادات ما له زمان خاص كالصلاة والصيام، ومنها ما لا زمان له كالدعاء والتقوى. والعبادات في الإسلام تشمل الفعل والترك، ففعل الطاعات والخير مطلوب، وترك المنكرات والشرور أمر لازم، وترك شرب الخمر هو عبادة تَركية. فالعبادة في الإسلام لا تقتصر على القلب، أو على المسجد، بل تستغرق المكان والزمان، وهي تشمل كل الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي يحبها الله عز وجل، وهي كل أمور الخير والنفع للعالمين بما يوافق الشرع الحكيم. ولذلك من يحاول الفصل بين الاقتصاد والسياسة والحالة الاجتماعية من جهة والإسلام من جهة أخرى فهو يحرث في البحر، فالإسلام له ارتباط وثيق بالاقتصاد، كما أن الاقتصاد له ارتباط وثيق بحياة الناس وأفكارهم وأخلاقهم، وتأثير الاقتصاد على الأخلاق تأثير بالغ، ومن ذلك تجربة الجزائر في صناعة الخمر التي يدعونا البعض إلى الاقتداء بها، فهل كان تصدّر الجزائر لقائمة مصدري الخمور في العالم بدون ضريبة باهظة على أخلاق الشباب الجزائري؟ ألم تضجّ الجزائر من انتشار الخمور بين شبابها، حتى شهدت منطقة برج الكيفان بشرق العاصمة سنة 2005م ما عرف بحادثة "حرب الخمور" التي شنها السكان احتجاجا على الخمارات التي تغزو وسط المدينة، وما ينجم عنها من تجاوزات أخلاقية تتمثل في سهرات السمر إلى آخر الليل مع فتيات الملاهي، فهل هذا ما يعدوننا به في الأردن عبر صناعة الخمور؟ والإحصائيات تثبت استنزاف الخمر والمسكرات الأخرى والمخدرات لمبالغ ضخمة من أموال الناس ومدخراتهم، ففي اليمن يستنزف القات 13% من ميزانية الأفراد، وفي مصر بلغت ميزانية مكافحة المخدرات فقط مليارا ونصف! يبقى أن نعرف أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الخمر لا يضر الفرد فقط، بل هو يضر المجتمع بأكمله، ومنها دراسة البروفيسور ديفيد نات، خبير علم السموم والعقاقير النفسية والعصبية في كلية لندن عام 2010م، عن أثر مضار الخمر والمسكرات والمخدرات على شارب الخمر والمجتمع، من خلال دراسة تأثيرها النفسي والبدني والاجتماعي، وخلصت الدراسة إلى أن التأثير السلبي على المجتمع ضِعف التأثير السلبي على شارب الخمر نفسه! وأن خطر الخمر على المجتمع يفوق خطر المخدرات على المجتمع! وبمقارنة خطر الخمر بخطر 20 مادة مسكرة ومخدرة، تفوق الخمر عليها بكونه يحتوي على 16 نوعا من المضار، بينما الهيروين حاز على 15 نوعا من المضار! وكانت الخلاصة التي توصل لها البروفيسور نات وفريقه الدعوة لأولوية محاربة الخمر على محاربة المخدرات في التشريعات الغربية. وهذا جانب من تناقض الإسلام مع العلمانية، حيث الإسلام يتعامل مع الاقتصاد مربوطاً بأبعاده الأخرى كالأخلاق مثلاً، بينما العلمانية تتعامل مع الأشياء بأحادية مفرطة، فالمهم أن نصدر الخمر ولو فقدنا رأسمالنا الحقيقي وهم الشباب!! كما أن تحريم الإسلام للخمر قائم على جانب صحي وهو أن الخمر داء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر: "إنه ليس بدواء ولكنه داء" رواه مسلم، وهو ما أثبته الطب الحديث أن الخمر لا دواء فيها، ولا يعرف كثير من الناس أن المقصود في قوله تعالى: "وفيها منافع للناس" أن منفعة الخمر هو في ثمنه فقط، وإلا فالخمر "أم الخبائث" كما في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي. ولمكافحة أضرار الخمر وضعت منظمة الصحة العالمية سنة 2010م "استراتيجية عالمية للحد من تعاطي الكحول على نحو ضار"، لأنّ الكحول أصبحت تحتل المرتبة الثالثة في العالم ضمن عوامل الخطر الرئيسية المرتبطة بالمرض والعجز؛ وأنّها تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك العوامل في إقليمي غرب المحيط الهادئ والأمريكيتين، والمرتبة الثانية في أوربا. ويقول موقع منظمة الصحة العالمية: إنّ 320000 شاب من الفئة العمرية 15-29 سنة يقضون نحبهم كل عام لأسباب لها علاقة بالكحول، ممّا يمثّل 9% من مجموع الوفيات السنوية التي تُسجّل بين تلك الفئة. كما كشفت دراسة بريطانية حديثة أن نحو مليونين و500 ألف شخص يموتون سنوياً في العالم بسبب الخمور، وأشارت الدراسة إلى أن عدد الوفيات بسبب الكحول يفوق عدد ضحايا مرض الإيدز والملاريا والسل، داعية إلى اتفاقية دولية مُلزِمة للحد من سوء استخدام الكحول. كما يعد إدمان الكحول ثالث أكبر عامل يهدد بضياع الكثير من سنوات عمر الإنسان جراء المرض والإعاقة، ويشكل التهديد الأكبر لحياة البشر في الدول ذات الدخل المتوسط والتي يعيش فيها نحو نصف سكان العالم. ويجب أن نلاحظ هنا الفرق بين الرؤية الإسلامية للخمر والرؤية العلمانية للخمر، فالإسلام حرّم الخمر لمضاره على البشرية، وهي لا تقتصر على الأمراض الخطيرة وكثرة الوفيات بل تشمل سوء الأخلاق واضطراب المجتمع وانتشار الجرائم وقلة الإنتاج وتدهور الحالة العامة، فحرّمه بشكل تام وقاطع، وهو مبدأ ثابت أرساه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا ضر ولا ضرار"، رواه ابن ماجة. بينما الرؤية العلمانية تقرّ وتعترف بمشاكل الخمر الضخمة ولكنها لا تعالج المشكلة من جذورها، بل تدير المشكلة وتوجهها بما يحقق مكاسب مالية للرأسماليين الجشعين، ولذلك تنص أدبيات منظمة الصحة على "الحد من تعاطى الكحول على نحو ضار"!! وقد ثبت عن الأطباء أن كل جرعة خمر تقتل عددا من خلايا الدماغ!! ثم ألا يكفي مقتل 2,5 مليون شخص سنوياً لمنعه؟ لكن حين نعرف أن حجم تجارة الخمر في العالم تتجاوز البلايين، سوى ما يرتبط بالخمر من بارات ونوادٍ وسهرات وفتيات ومخدرات وأفلام وممثلين ونجوم إعلانات و...، ويقابل هذا أن هؤلاء الرأسماليين الجشعين (الأوليغارشية) يتاجرون أيضاً في وسائل محاربة الخمور، كأدوات فحص الكحول في دم السائقين، ومصحات علاج المدمنين، والمختبرات الجنائية ومعدات الشرطة في محاربة التهريب و...، عندها نعرف لماذا لا تمنع الخمور في العالم بشكل قاطع، إنها منجم للمكاسب الفاحشة ولكنها محرمة!! وهذا جانب آخر من تناقض الإسلام مع العلمانية أنه جاء ليحل مشاكل البشرية، وليس ليتاجر بها!! والمتاجرة هو منهج العلمانية في القضايا السياسية كاحتلال فلسطين أو الثورة السورية أو لعبة الديمقراطية، وفي العلمانية يتم المتاجرة بقضايا المرأة والأسرة والطفولة، وهكذا. وما يرفضه الإسلام لنفسه يرفضه للعالم كله حتى المحارب له، بخلاف العلمانية والديمقراطية اللتين لا تتورعان عن توظيف الخمر والمخدرات في تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية، ولعل في حرب الأفيون في الصين أكبر شاهد على ذلك. الخلاصة إن الرؤية الإسلامية تقوم على أن هذا الكون الكبير ومن ضمنه البشر هم من مخلوقات الله عز وجل، وأن الله عز وجل لم يتركنا هملاً دون توجيه وإرشاد، فأنزل لنا رسالات سماوية، كان خاتمتها الإسلام، من التزم بأحكامها بالاقتصار على الحلال الكثير وتجنب الحرام القليل سعد في الدنيا والآخرة. ومن عارض شريعة الله عز وجل واقتحم دائرة الحرام الضيقة، ضيق على نفسه معيشته في الدنيا والآخرة، ومن عاشر السكارى أو سمع أخبارهم عرف في أي ضيق هم يعيشون، وما أضيق معيشتهم في الآخرة!
تناقض رؤية الإسلام والعلمانية صناعة الخمر نموذجاً
2015/05/01
الرابط المختصر
Image