جرائم القتل نتاج البعد عن الدين في الأسرة والإعلام

الرابط المختصر
Image
جرائم القتل نتاج البعد عن الدين في الأسرة والإعلام

مع الأسف قلما أصبح يخلو أسبوع من خبرٍ عن جريمة قتل بشعة، ولأسباب تافهة، وقد تكون بحق أحد الأقارب أو الأصدقاء، وهذا مؤشر خطير على خلل مجتمعي كبير، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الظاهرة الخبيثة، ألا وهي القتل، لأن القتل جريمة محرّمة في الإسلام، لقول نبي الرحمة عليه السلام: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"، رواه مسلم.
وأخبرنا عن ظاهرة كثرة القتل في آخر الزمان وحذرنا منها، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويُلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج". قالوا: يا رسول الله أيما هو؟ قال: "القتل القتل"، متفق عليه.
بل لكثرة من يُقتل فإن القاتل لا يدري لماذا قَتل! ولا يدري المقتول لماذا قُتل؟!؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليأتينَّ على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل"، رواه مسلم.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم "ينقص العلم"، إشارة لارتباط ظاهرة الجهل المجتمعي بالدين والإسلام على استفحال ظاهرة القتل، فنجد الأفراد يَقتل بعضهم بعضاً، ونجد الدولة والسلطة تقتلان معارضيهما بالجملة، ونجد الفرق الضالة والطامحة في الحكم تقتل الأبرياء، ونجد الغلاة الجهلة بالدين يقتلون الناس بغبائهم وجهلهم وبتسخيرهم وتوظيفهم من قِبل عدو الأمة، والنتيجة سريان أنهار الدماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل.
وإذا كانت جرائم القتل من قبل الأنظمة والفرق الانقلابية والغلاة مكشوفة ومفضوحة بسبب الصراعات والخصومات والحروب الإعلامية المتبادلة، فإن جرائم قتل الأفراد لبعضهم البعض تستحق وقفة عندها، وتفحّص لأسبابها ودواعيها.
وقد وجدت أن د. سامي نصر، المختص في علم الاجتماع الاجرامي، قد كتب دراسة مهمة في أثر عاملين مهمين في جرائم قتل الأفراد، يهمنا فهمهما، ويمكننا كأفراد التعامل معهما وتجنب تأثيراتهما السلبية علينا، وهما يتعلقان بقوله صلى الله عليه وسلم "وينقص العلم".
يرى د. سامي في دراسة حديثة بعنوان "قراءة سوسيولجية لجرائم القتل" أن مؤسستي الأسرة والإعلام هما أهم مؤسستين تساهمان في انتشار جرائم القتل، إذ تساهم الأسرة من خلال سوء معاملة الوالدين للأبناء، أو تخلي الأبوين عن تربية أبنائهم، أو تنشئتهم على الإجرام، في تحويل الأطفال لمجرمين، وهذا مرتبط "بنقص العلم" الشرعي والتربوي، وهذا يدلنا على خطورة الجهل ومركزية نشر العلم في الدعوة الإسلامية وكيف أنه يساهم بفعالية في كبح جماح الجرائم والعنف.
كما أن خلو برامج ومناهج التعليم من القدر الكافي من العلم الشرعي وأصول التفكير والتربية، يخرج لنا أجيالا لا تعرف قيمة الأسرة ولا أهمية التربية والتنشئة السليمة.
ولذلك فإن الدعوات الهدامة لتضمين المناهج التعليمية مفاهيم الجندر ومقررات اتفاقية سيداو، هي في الحقيقة كزرع ألغام متفجرة في طريق الأبرياء، فالسعي لتدريس الجنس لأبنائنا مفصلاً مع تعظيم جانب اللذة الشهوانية فيه فقط، ومفصولاً عن أحكام الشريعة التي تحصره بالزواج الشرعي، ودون أي عناية بتعظيم دور الأسرة ورعاية الأطفال دينياً وأخلاقياً وعلمياً وتربوياً، هو بمثابة تفجير لمستقبل هؤلاء الأبناء ومستقبل المجتمع، كما بتنا نشاهد من كوارث الفكر النسوي والجندري على المجتمعات الأخرى.
أما المؤسسة الأخرى التي تساهم بفاعلية في استفحال جرائم القتل فهي مؤسسة الإعلام، يقول د. سامي: "من بين المؤسسات الاجتماعيّة التي رأينا من الضروري التركيز عليها نظرا لعلاقتها بالظاهرة الإجراميّة بصفة عامة وجرائم القتل بصفة خاصة هي المؤسسة الإعلاميّة.. هذا الكيان الاجتماعي الجذّاب والمؤثّر على مختلف الفئات العمريّة المكوّنة للمجتمع، وذلك لما لها من سلطة مباشرة وغير مباشرة على سلوك الأفراد والجماعات... أثيرت قضية تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام بشكل جدي في السنوات الأخيرة، ومركز اهتمام العديد من الباحثين في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، واحتلّت صدارة المؤسسات الاجتماعيّة التي تمّ اتهامها بتدعيمها للسلوك الانحرافي والإجرامي.
ويقول أحد الأطباء الأمريكيين في جامعة كولومبيا: "إنّه إذا صحّ أن السجن هو جامعة الجريمة، فإنّ التلفزيون هو المدرسة الإعداديّة للانحراف"!!
وأظهرت بعض الدراسات العلميّة في إسبانيا أنّ 39% من الشبّان المنحرفين تلقّوا معلوماتهم التي استمدّوها في تنفيذ جرائمهم من التلفزيون.
ومرة أخرى لنتذكر ارتباط "نقص العلم" بجرائم القتل كما نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم والمتمثل بندرة المحتوى الديني في الإعلام والذي لا يتجاوز نسبة هامشية، والغالبية من المحتوى متعارض مع الدين أو معتدٍّ على الدين، وكانت نتائج الإدمان على وسائل الإعلام وخيمة باعتراف الباحثين المختصين.
وعن كيفية مساهمة الإعلام في ترويج جرائم القتل يحيلنا د. سامي على دراسة قديمة له بعنوان "محاولة في سوسيولوجيا الإعلام الإجرامي"، حيث شرح فيها عمليّة تأثير وسائل الإعلام على انتشار الظواهر الإجراميّة عبر ثماني طرق، هي:
1- التعليم: فبنشر تفاصيل ارتكاب الجريمة يمكن تعلّم أساليب سرقة السيّارات، وإخفاء معالم ملكيتها، وكيفيّة تزوير الوثائق، ووسائل الغشّ التجاري وغيرها من أساليب الانحرافات السلوكيّة.
2- قتل الامتعاض والاستنكار من الجرائم: إنّ طريقة نشر خبر الجرائم أو جعلها ركنا أساسيّا في الإعلام جعل منها سلوكا عاديّا ينتفي في ارتكابها أيّ نوع من الامتعاض والاستنكار.
3- جعل الجريمة مرغوبة: من الانعكاسات المباشرة لوسائل الإعلام على الأطفال والشباب جعل المجرم شخصا جذابا من خلال البطولات التي يقوم بها، وذكائه الخارق للعادة، بل قد يصير هذا المجرم نموذجا ورمزا في خيال المشاهد، خاصة عندما يقوم بدور المجرم "نجمٌ" من النجوم السينمائيّة المحبوبين لدى الجمهور، ونفس الشيء يحصل في الصحف المكتوبة عندما تصوغ الخبر الإجرامي بأسلوب جذّاب.
4- جعل الحياة اليوميّة للمجرمين جذابة: العديد من الأشرطة والمسلسلات البوليسيّة تعرض تفاصيل عن طرق معيشة المجرمين ومحترفي الإجرام وتسلّط الأضواء على البذخ والتمتّع بملذّات الحياة، وخاصة التمتّع بالسلطة والنفوذ الموازية لسلطة الدولة والقانون، ويقدم المجرمون/ الأبطال أحياناً على أنهم طيبون!! حتى تحوّلت العديد من وسائل الإعلام إلى أداة إشهار لصالح الحياة الإجرامية الانحرافية.
5- التقليد والمحاكاة: تقليد ما يعرض في وسائل الإعلام من أكثر الآثار المباشرة على سلوك أفراد المجتمع وخاصة فئات الأطفال والشباب، تقول عالمة النفس "ليليان لورسا"، في إحدى المقابلات التي أجريت معها بالسؤال "كيف تظهر تلك السيطرة؟ (سيطرة جهاز التلفاز على الأطفال). وكانت إجابتها: "بالفتنة، فنحن نريد أن نكون على الشكل الذي يظهر على الشاشة، فهناك التقليد الإرادي لأبطال التلفزيون، وهناك أيضا التقليد اللاإرادي وخاصة ما يحدث بسبب التشبّع الحسّي- الحركي Perceptivo- Motrice الناتج عن تكرار المواضيع. والتشبّع هو نوع من أنواع التعلّم يتميّز بأنّ الشخص يتعلّم دون أن يدري أنّه يتعلّم، وبالتالي دون أن يدري ما يتعلّمه.." وبدليل أننا كثيرا نرى الناس يتداولون أسماء نراها على شاشات التلفاز.
6-  تراجع  دور الأسرة: كانت الأسرة في العادة تقوم بدور الوسيط الإيجابي بين الفرد والقيم الاجتماعيّة، إذ تحاول عبر التنشئة الاجتماعيّة خلق نوع من الحصانة التربويّة والتنشئة الاجتماعية والتي تحول بين الطفل وبين الانحراف. كما تقوم أيضا عبر آليات متنوّعة بخلق التوازن النفسي والاجتماعي بين المحيط الخارجي (الروضة، المدرسة، الشارع، الأصدقاء…) وبين ما تطمح له العائلة من تربية لأبنائها.
ولكن ومع دخول جهاز التلفاز والدور الذي أصبح يقوم به، وخاصة سيطرته الكليّة على الأطفال، بدأت الأسرة تفقد مكانتها تدريجيّا، وصارت كلّ التأثيرات التي كانت الأسرة تخاف منها وتمارس سلطتها لمنع التأثير بها صار يشاهدها الأطفال والشباب داخل البيت لا خارجه، كما أصبح تأثير التلفاز أكثر فاعليّة من الأسرة، بل حتّى ربّ العائلة ذاته انساق تدريجيّا وراء هذا التيّار. كما أنّ ظاهرة الإدمان على مشاهدة التلفاز لا تقتصر على الفئات الشبابيّة والأطفال، بل وصلت عدواها إلى ربّ الأسرة وبقيّة أفراد العائلة.
7- فقدان الاستقلاليّة: تساهم وسائل الإعلام بشكل عامّ، وجهاز التلفاز بشكل خاصّ، في فقدان استقلاليّة الفرد أو الشخص المتقبّل للرسالة الإعلاميّة، بحيث تَحوّل هذا الجهاز إلى مصدر تعليم وتوجيه ومصدر انصياع من قبل المتقبّل، فالتلفزيون يخلق حالة التحام جديدة لا يستطيع الطفل فيها أن يقول “أنا” أو “لا” لأنّه في موقع المسيطر عليه، وبذلك يفقد كل استقلاليته ويصبح عبارة عن عبد لجهاز التلفاز.
8- قتل الإحساس جرّاء مشاهدة برامج العنف: مِن تأثير الإعلام على سلوك الأفراد والجماعات قتل الإحساس تجاه الآخرين، خاصة في حالة برامج العنف التي أصبحت اليوم تطغى بشكل بارز في بعض البرامج التلفزيّونية، وخاصة المخصّصة منها للأطفال، فحسب دراسة إحصائيّة أوّليّة أجريت خلال عامي 2004- 2005 لأكثر القنوات التلفزيّونية جاذبيّة من طرف الأطفال وهي قناة (Space Toon) سجّلت نسبة تجاوزت الـ 80 % من البرامج التي تتضمّن أعمال عنف وحروب.
وتقريبا نفس النسبة أي 87.38% في برامج روتانا سينما، وعلى نفس المنوال تسير قناة ميلودي أفلام… “وحسب دراسة أمريكيّة قامت بها ميديا سكوب Médiascope يتّضح أن 75% من أعمال العنف على الشاشة لا يُعاقب أصحابها عليها.
والأسوأ من ذلك أنّ فاعليها لا يهمّ إن كانوا شخصيات إيجابيّة أو سلبيّة، ففي عام 1990 وَجدت إحدى الجمعيّات الوطنيّة لثقافة الصغار أنّ الأطفال الذين تعوّدوا على رؤية برامج العنف أصبحوا أقلّ إحساسا بألم الآخرين، وقتل الإحساس يمكن أن يترجمه الطفل عبر سلوكيات مختلفة ومتطوّرة ومتصاعدة، إذ تبدأ بالاستعمالات اللفظيّة العنفية، ثم في مرحلة ثانيّة تتجه نحو الألعاب التي بحوزته أو بحوزة غيره، وتتطوّر شيئا فشيئا لتنتقل إلى الواقع الفعلي مع بقية الأطفال.
وبعد عرض د. سامي لهذه الطرق الثماني التي يساهم فيها الإعلام بانتشار الجرائم وجرائم القتل، أورد عددا من الحالات العربية التي صرح فيها المجرمون أنهم قلدوا الأفلام والمسلسلات في جرائمهم، يخلص إلى توصية نهائية فيقول: "بعد هذا العرض نلاحظ أن هناك دورا مهما للإعلام في الحدّ من الجريمة وذلك بدراسة ما يُعرض على شاشات التلفاز. وما يهمنا بالأردن أن يكون إعلامنا إعلاما هادفا موجها مساعدا للأسرة في التنشئة الأسرية من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة".
ويبقى أن نطرح سؤالا صريحا ومباشرا: أيهما أكثر داعشية وخطراً على مجتمعنا وواقعنا، مناهجنا المدرسية التي يهاجمها التيار العلماني بشدة في هذا الوقت بانتهازية شديدة، أو الإعلام المدلل من التيار العلماني برغم ضلوعه المباشر والضخم في الجرائم؟
وعلى العاقل في كل بيت مراجعة دوره الأسري ومراقبة تغول الإعلام على نفسه وأبنائه وتعديل ذلك الوضع المائل بعلمٍ ومعرفةٍ صحيحة بالدين والتربية، حتى يحمي نفسه وأهله من المفاجآت الشريرة.