هزت المجتمعَ الأردني جريمة طبربور الوحشية، والتي قَتل فيها شاب أمه وقلع عينيها مؤخراً، واشتعلت مواقع التواصل بالكثير من الأخبار والتعليقات عن هذه الجريمة، وأطلقت أجراس الإنذار بشكل صارخ لضرورة التنبه لما تشهده مجتمعاتنا من تغيرات سلبية وخطيرة.
فهذه الجريمة في الواقع تضمنت في طياتها عدة جرائم، وهي جرائم تتوسع دائرة انتشارها منذ عدة سنوات ولم يتم علاجها بشكل مناسب لحد الآن، بل للأسف تتفاقم بسبب الإهمال وأحياناً هناك دعم لها بشكل مباشر وغير مباشر من جهات متعددة!
تفاصيل جريمة طبربور التي نشرت في الإعلام تشير إلى بداية الأزمة بعقوق الولد لأمه بسبب رفضها وعائلته زواجه من فتاة غير أردنية، وقد أصبح عقوق الوالدين ظاهرة تتصاعد في السنوات الأخيرة بل وصلت لحد وقوع عدة حالات قتل أولاد لآبائهم وأمهاتهم، وكذلك أصبحت المحاكم تشهد شكوى آباء وأمهات على أولادهم لإهمالهم وعدوانهم عليهم، وأصبح هناك تزايد في إيداع الآباء والأمهات في دور العجزة والمسنين!
وفي المقابل هناك أيضا حالات من العقوق من الآباء والأمهات لأولادهم وصلت للقتل والإيذاء والطرد، وهذه الحالة الأسرية السيئة هي نتاج ضعف الوعي الديني لدى أفراد الأسرة والحقوق والواجبات الشرعية التي يرتبها الإسلام على كل طرف منهم، وأيضاً هناك تدنٍ واضح في ثقافة تكوين الأسرة واختيار الزوج والزوجة وتربية الأبناء لدى الشباب والشابات، ومن جهة أخرى هي نتاج الوعي المغلوط الذي يبثه طوفان الإعلام الوافد الذي يشيع الفوضى باسم الحريات الفردية وكسر الحواجز، والبحث عن المتعة الشخصية دون الاهتمام بالعواقب.
وتشير التفاصيل إلى أن الشاب -بعد رفض أسرته الزواج من هذه الفتاة- لجأ للسحرة والعرافين والمشعوذين، وأن صفحته على الفيس بوك مليئة بصور وطلاسم سحرية، وهذه أيضاً مشكلة وظاهرة سلبية بدأت تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية، ورغم أن السحر محرم في الإسلام بشكل واضح وصريح، ورغم انحسار التعاطي مع السحرة والفتاحين والحجابين نسبياً في البيئات المتعلمة والمدنية، إلا أنه في السنوات الأخيرة عادت النظرة الإيجابية للسحر والسحرة بسبب موجة أفلام وروايات السحر التي تتصدر الشاشات ومواقع الإنترنت ورفوف المكتبات، حيث تقدم بشكل جذاب وقوي ومؤثر.
وهو الخلل الذي يقوم عليه الإعلام وخاصة الفن حين لا يقيد بأحكام الدين، فيصبح الفن للفن أو الفن للربح، مهما كان المضمون سيئا أو ضارا ومؤذيا.
وتفاصيل الجريمة تشير إلى أن هذا الشاب العاق والقاتل فقد وظيفته في جهاز الأمن والشرطة بسبب تعاطيه للمخدرات، وهي الجريمة التي تتوسع في كثير من المجتمعات الإسلامية وتعد من أخطر التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا ضمن الحملات العدوانية التي تستهدف الأمة الإسلامية في وجودها.
ومرة أخرى يقوم الإعلام الوافد من وراء البحار ونسخته المحلية بتقديم عوالم المخدرات بشكل شيق مليء بالقوة والشجاعة والمتعة، ومن جهة أخرى تنشر ثقافة سبل تعاطي المخدرات وأجواؤه والحيل اللازمة للتعاطي بعيداً عن رقابة الأسرة والمجتمع.
وأيضا أصبح من المتفق عليه وجود خلل ديني وثقافي يحصن الشباب والشابات من إغراءات الإدمان، وللأسف هناك توسع في القابلية للإدمان من خلال تفشي إدمان التدخين وتعاطي الأرجيلة بين الرجال والنساء، والدراسات العلمية تؤكد أن هؤلاء يكون عندهم قابلية لتعاطي المخدرات أكثر من غيرهم.
وأخيراً كانت جريمة القتل، التي خطط لها القاتل بشكل بشع حيث لم يكتفِ بالقتل بل قطع رأس والدته ثم اقتلع عينيها، بتأثير السحر والمخدرات.
وجرائم القتل أصبحت تتزايد بشدة ولأسباب تافهة، وأصبح الغضب لا يسيطر عليه، وسرعان ما يتفاقم أي خلاف ليتحول إلى جريمة قتل بدلاً من احتوائه وإنهائه.
هذه الجرائم المتعددة في هذه الجريمة المركبة والتي تؤشر على مظاهر خطيرة جدا تتفشى وسط المجتمعات ولا بد لها من علاج عاجل وعلاج دائم، وإلا شاعت الفوضى والجرائم فيها.
ومن الأسباب الرئيسة لهذه الظواهر السلبية ضعف حالة التدين في المجتمعات الإسلامية تحت ضغوط العولمة والحداثة، فقد أصبح الخطاب الديني الإسلامي يعاني من تقليص مساحته في وسائل الإعلام بإغلاق عدد من منابره الفضائية الخاصة وتقليل وقته في الفضائيات الرسمية ومحاولة تحجيمه في المناهج المدرسية والجامعية.
وأيضاً يعاني الخطاب الديني الإسلامي من ضعف في طرحه من خلال إقصاء بعض الكفاءات العلمية بسبب سياسات أو مواقف أمنية، ومن خلال ضعف مخرجات كليات الشريعة بسبب ضعف المعلمين أو تدني مستوى الطلبة لضعف معدل القبول أو ضعف الحوافز الوظيفية مستقبلاً مما يزهد الأذكياء بدراسة الشريعة.
وأيضاً هناك ضعف في جاذبية الخطاب الديني الإسلامي في مقابل خطاب الشهوات والمتع الحرام التي يقدمها الإعلام المسنود بقوة هوليود وخدعها وميزانيتها الخرافية!
إن العناية بتطوير مناهج التربية الإسلامية في المدارس والجامعات لتواكب التحديات التي يواجها الشباب والشابات في الحياة من سيل الشهوات المدمر كالتدخين والمخدرات والزنا والشذوذ والتي تعرض عليه صباح مساء بطرق جذابة ومؤثرة، ونرى تأثيرها السلبي في سلوك الطلبة والطالبات يومياً أمام مدارس البنات وفي المقاهي والمولات، وإدارات المدارس ستسهم بحلّ الكثير من هذه الإشكاليات.
وعلى صعيد آخر يجب أن تعالج المناهج التعليمية مشاكل الفهم المنحرف للدين تجاه التطرف والغلو وتجاه السلبية وعدم الفاعلية، فالدين والشريعة كانا منبع الإيجابية عبر التاريخ، ويجب أن تبث مناهجنا هذه الروح الإيجابية لبناء الحياة وعمارة الأرض ونشر الخير والمعرفة والمحبة في ربوعها.
يلزم تطوير مناهجنا لتمنح طلبتنا الحصانة الإيمانية والإشباع الروحي فلا يقع فريسة الدجالين من السحرة والمشعوذين وقارئي الفنجان، أو دعاة الإلحاد والمذاهب المنحرفة كعبدة الشيطان والإيمو وأمثالها، وترسخ في وجدان طلبتنا الاعتماد على الله سبحانه وتعالى وحده مع الأخذ بالأسباب الصحيحة في مشاكل المرض والفقر والزواج ومصاعب الحياة.
كما يجب تمليك طلبتنا القدرة على تجاوز الأضرار السلبية التي يتعرضون لها يوميا عبر الشاشات وعبر وسائل التواصل الإعلامي والتي تنشر قيم الفردية والأنانية والبحث عن التفوق الزائف في مهارات ومسابقات تافهة تعلي من شأن اللذة المحرمة والغاية المنحطة والسلوك البذيء.
وبجوار تطوير المناهج التعليمية الدينية وغيرها في المدارس والجامعات، نحتاج إلى رفع سوية الخطاب الديني في المساجد ووسائل الإعلام برعاية الخطباء والوعاظ مادياً بتحسين رواتبهم وحوافزهم، ومعنوياً بالدورات النافعة فعلاً، والندوات العلمية الثرية وفتح المجال الإعلامي للنجباء منهم وتزويدهم دوماً بالكتب القيمة، وفتح المجال لهم للإبداع في التفاعل مع المجتمع وقضاياه.
ونحتاج أن يرافق ذلك الاهتمام بالأسرة والتربية القويمة للأطفال وأن يتحول ذلك لقضية مركزية في تعليمنا وإعلامنا وخطابنا الديني، فنسب الطلاق وانهدام الأسر في ارتفاع مما يساعد على انحراف الأبناء، فرغم أن أوقات كثيرة تصرف من الشباب والشابات على متابعة قصص الحب والغرام في الإعلام، إلا أنهم يفشلون في ذلك عملياً في الواقع، لأن الحب الذي (يمثل) لا حقيقة له، وعالم الفنانين والفنانات شاهد على فشلهم الأسري!
الحب المادي الذي يملأ خيال الشباب والشابات حب مزيف يقوم على طلب الشهوة واللذة المحرمة، ويعرض عن أحكام الله عز وجل في بناء الأسرة الصالحة، ومن هنا وجب توعية الشباب والشابات للحقيقة بأن السعادة والحب هما باتباع أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في العلاقة بين الرجل والمرأة والتي تقوم على العفة والطهارة والشرف والدين "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، أما ما نسمعه ونشاهده في واقع طلبتنا وطالباتنا من تقليد لقصص المسلسلات بالتعدي على محارم الله عز وجل من تواصل محرم بين الطلبة والطالبات يبدأ خفية في المدارس بعيداً عن عيون المعلمين والمعلمات والآباء والأمهات، ثم يتطور للقاءات في المولات والمتنزهات، لينتهي بقصص دامية تسمى (جرائم الشرف) فهذا طريق مظلم يجب قطع بداياته المهلكة لنوقف نزيف نهاياته المأساوية.
إن ضعف الوعي الديني وتصاعد موجة الغزو الفكري والسلوكي عبر الإعلام والسماوات المفتوحة سيترتب عليه الكثير من الأضرار والظواهر السلبية في مجتمعاتنا، وعلى العقلاء -كلٌ في موقعه- تدارك ذلك برفع سوية التدين ونشره لوقاية أبنائنا وبناتنا من غوائل الفواحش والإجرام، ولنا عبرة في العالم من حولنا، المتقدم والنامي، والذي يعاني من سلبيات العولمة والحداثة.
من حكمة السالفين قولهم: "التقوى أقوى"، وهذا الذي نحتاجه اليوم تقوى الله عز وجل، والتي ترشدنا للتعلم الصحيح للدين والعمل السليم به والأخذ بالأسباب الموضوعية والعلمية في حل المشكلات، ولقد سادت التقوى أمة الإسلام فسادت العالم ونشرت الرحمة والبهجة، والعالم اليوم يترقب ذلك منا بشوق، فمتى ننهض بواجبنا تجاه أنفسنا وأهِلنا والبشرية جمعاء؟
جريمة طبربور ..انعكاس لتراجع التقوى في مجتمعاتنا
2016/11/01
الرابط المختصر
Image