حب العلم طوق نجاتنا

الرابط المختصر
Image
حب العلم طوق نجاتنا

مع انطلاق العام الدراسي الجديد تدخل أمتنا في كل ربوعها سباقا نحو التقدم والرفعة والازدهار، فالعلم والتعليم هما الرافعة لنهضة الأمم وتحصيل الكرامة البشرية.
فبينما ينادي البعض بحيوانية الإنسان وانحطاطه وهمجيته، يعلن الإسلام والقرآن الكريم أن الإنسان مخلوق مكرّم ومقدّر ومتميز، كما قال رب العالمين: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا" (الإسراء: 70)، وتجلى هذا التكريم بالتعليم، لقوله تعالى: "وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا عِلم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون" (البقرة: 31-33).
فتعليم الله عز وجل أسماء الأشياء لآدم عليه السلام كان مدخلا لتكريمه بسجود الملائكة له "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" (البقرة: 34)، وكان هذا التعليم مدخلاً لتكريمه أيضاً بتسخير الأشياء كلها له "وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الجاثية: 13).
هذه المكانة العالية للإنسان وللعلم في الإسلام هي أول مفاصل التضاد بين الرؤية الإسلامية والرؤية المادية العلمانية التي تهين الإنسان وتحتقره إما بجعله من سلالة قرد أو بنفي كرامته وتكريمه الرباني أو بنفي غايته الحقيقية وهي خلافة الله في الأرض بالعبادة والطاعة والعمارة والحضارة، كما قال صالح عليه السلام لقومه: "وإلى ثمود أخوهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب" (هود: 61).
ومِن هنا كان العلم هو أساس الإيمان وكان العلم أساس العمل للدين والدنيا، قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلّبكم ومثواكم" (محمد: 19).
فالإيمان في الإسلام يقوم على العلم والتعلم، ولهذا أرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب ليعلّموا البشر الدين، قال تعالى عن وظيفة سيد المرسلين: "لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران: 164)، فتعليم الكتاب (وهو القرآن الكريم) وتعليم الحكمة (وهي السنة) وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي وظيفة كل الأنبياء على مدار التاريخ، ووظيفة الوحي الرباني تعليم الناس دينهم، وقد نصّ على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل الذي شرح أركان الإسلام والإيمان ومعنى الإحسان، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم".
ولذلك لا ينحرف تدين الناس نحو الغلو والتطرف والإرهاب كداعش وأخواتها إلا بسبب التدين البعيد عن العلم السليم أو بسبب الجهل، كما أن انحراف التدين نحو التفريط والانحلال كالتصوف المنحرف ما هو إلا بسبب الجهل بالدين والعلم الأعوج!
ومن العجائب والغرائب أن دعاة العلمانية والحداثة في الغرب والشرق لا يجدون غضاضة في دعم التدين الأعوج ونشره والتبشير به كحلٍّ للغلو والتطرف والذي يتمثل في التصوف المنحرف والقائم على الجهل والخرافة والشعوذة والروحانية الباطنية المنحرفة والذي يتصادم مع ما يزعمه العلمانيون والحداثيون من إعلاء شأن العقل والعلم والمادة، في انتهازية بالغة!!!
ولا يقل انحراف علاج الغلو والتطرف بنشر التصوف المنحرف إلا بانحراف علاج التطرف بزيادة تجهيل الناس بدينهم عبر إقصائه من مناهج التعليم ومحاصرة كليات الشريعة ومحاولة خنق المنابر الشرعية العلمية عبر الخطبة الموحدة وتدجين الدعاة وتحجيم دور المساجد.
فيزعم بعض النوكى أن العقل لوحده كاف للحصول على الهداية دون حاجة للدين! ويقفز هذا وأمثاله عمّا سبّبه العقل البشري عبر عشرات ومئات الفلسفات من دمار وكوارث، فهل إبادة الهنود الحمر إلا نتيجة اعتماد العقل النفعي؟ وهل استرقاق أحرار أفريقيا ونهبهم وخيراتهم في العالم الجديد إلا نتيجة للعقل البعيد عن هداية الوحي؟ وهل الحروب العالمية وكوارث النازية إلا نتيجة الفلسفات العلمانية المادية؟ وهل ما يعمّ العالم اليوم من طغيان وحروب نووية إلا نتيجة العقول البشرية المتناقضة والمتصارعة؟
ويقابله خرقاء تدعو لاتحاد العقول العلمانية المتناقضة ضد ظاهرة تدين الشعوب والتي يعتبرونها ظاهرة متخلفة! وكل هذا علاج للخطأ بخطأ أكبر منه، وما لم يتداركه العقلاء فسيكون له عواقب وخيمة.
إن العلم في الإسلام، كما هو أساس الإيمان فهو أساس العمل أيضاً، ففي قصة داود عليه السلام أن الله عز وجل علّمه صناعة الدروع من حلقات الحديد ولم يكن البشر يعرفون ذلك من قبل، قال تعالى: "وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتُحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون" (الأنبياء: 80)
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد على العلم ومشتقاته في إدارة أمور دعوته ودولته، ومَن تأمل الهجرة النبوية وجد فيها من التخطيط ومراعاة الاحتمالات الكثير الكثير مما يشير إلى اعتمادها على العلم، وفي حفر الخندق يوم الأحزاب دلالة مباشرة على تقبل العلم والمعرفة المادية السليمة مهما كانت جنسيتها، وعلى هذا المنوال سار أصحابه الكرام فهذا الفاروق يعتمد أسلوب الديوان الفارسي لحساب ميزانية الدولة لمّا كبرت واتسعت، ويقول عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه بل كان يقسم المال شيئًا فشيئًا، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر المال، واتسعت البلاد، وكثر الناس، فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش"ـ
وبناءً على حث القرآن الكريم المسلمين على العلم والتعلم للدين والدنيا تحولت الأمة الأميّة إلى أمة تقود العلم والمعرفة، وفعلاً تسلم المسلمون راية العلم في الدين فأبطلوا كل الوثنيات والشركيات في مناظراتهم ومؤلّفاتهم، ودخلت الأمم في الإسلام عن قناعة وحب ورضى، وعلى مستوى العلوم المادية قفز المسلمون بها فقد اخترعوا الصفر الذي طار بعلم الرياضيات حتى حسب علماء المسلمين قطر الأرض بدقة وحركة النجوم والكواكب واخترعوا الروبوت الآلي وشهدت الأندلس نهضة علمية رائعة، حتى بقيت السوربون تدرس الطب أربعة قرون باللغة العربية!
ومَن يرغب بالتعرف على المزيد من ريادة المسلمين في العلم والمعرفة يمكنه العودة لكتاب "ألف اختراع واختراع" والمعارض التي تنبثق منه والتي تقوم بها المؤسسة الداعمة للكتاب، وأيضا هناك كتاب مختصر للدكتور زغلول النجار بعنوان "مِن إسهامات الحضارة الإسلامية"، وهناك متحف متخصص بالعلوم والمخترعات الإسلامية في اسطنبول بحديقة غولهانة قرب أيا صوفيا.
واليوم، فإن حب العلم وترسيخ محبته في قلوب المسلمين والمسلمات -كباراً وصغاراً- هو حبل النجاة لهم في الدنيا والآخرة، فبالعلم السليم نستطيع معرفة ما يدور حولنا وما ينفعنا وما يضرنا، وبالعلم نصنع ونزرع طعامنا ودواءنا وسلاحنا، وبالعلم نبني اقتصادا قويا يتحرر من حبال الربا ومصائبه، وبالعلم نعالج مشاكلنا والتحديات التي تواجهنا.
والعلم الصحيح هو الذي يدلّنا على طريق الله المستقيم الذي يكسبنا رضاه ويدخلنا جنته بعيداً عن غلو الجاهلين وتفريط أهل الأهواء أو ما يخطط له الأعداء من دعم بدائل للإسلام الصحيح بتقديم إسلام علماني وإسلام حداثي وإسلام ليبرالي وإسلام مستنير، وغيرها من الصرعات والموضات.
وترسيخ حب العلم هو مسؤولية الجميع، لكن المعلمين والمعلمات يتحملون العبء الأكبر في ذلك، فمِن التقصير الفادح أن لا يزرع حب التعلم في قلوب وعقول الطلبة وأن يتخرج الطالب وهو لا يعرف كيف يتعلم ويحصل على المعلومة، ويرافق ذلك العجز عن القراءة أو عدم إتقان مهاراتها وأهمها الفهم لِما يقرأ والتفكر فيه ومعرفة طرق التفكير.
فلا تقتصر مهمة التعليم على إعطاء المعلومات فحسب لأن ذلك يصنع لنا جيلا غير مبادر وغير كفؤ، ولا يعرف أن يتعلم ويطور نفسه.
نعم، قد تكون أحوال التعليم في بلادنا ليست سويّة فهناك نقص أو هدر في الموارد مما يجعل رواتب المعلمين والمعلمات غير كافية أو تكون المدارس وتجهيزاتها بحاجة لتحسين واستكمال، لكن ليكن الشعور بالمسؤولية والرسالة والحرص على إخراج جيل كفؤ هو الهدف والغاية، ولتكن هذه هي البصمة التي يتركها المعلم والمعلمة خلفهما، وليكن حرصهما على اكتساب الأجور المستمرة من الله بحسن تربية وتعليم الأجيال هو التعويض عن قلة الأجور المادية.
وعلى نقابة المعلمين أن تحرص على سوية أوضاع المعلمين المالية والتقدير اللائق بهم، وأيضاً أن تهتم بتطوير مهاراتهم وحفزهم لاستخدام أفضل الوسائل والأساليب التعليمية ومعالجة السلبيات السلوكية والمنهجية، وإطلاعهم على أفضل المناهج في زرع القيم الإيمانية والإيجابية وطرق التفكير والإبداع بين الطلبة والطالبات.
كما أن على الأسرة القيام بدور مساند للمعلم والمعلمة بتحبيب التعلم لأبنائها وبالانتباه للمخاطر التي يتعرض لها الطلبة عبر شاشات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، ولتحرص كل أسرة على رفع مستواها التربوي بمطالعة كتاب أو حضور دورة واحدة في السنة على الأقل في التربية والتقويم، حتى تكتمل الدائرة بغرس أهمية التعلم السليم في حياة أبنائنا. 
إن التعلم ليس ترفاً، بل الوسيلة الوحيدة لإنقاذ أنفسنا وأمتنا في الدنيا والآخرة، فهل ندرك ذلك ونقوم بالمطلوب في الوقت المطلوب وبالشكل المطلوب؟