القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل الخاتم الذي أرسله للبشرية ليكون دليلاً لهم على السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة "كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور" (إبراهيم، 1)، وحتى تتحقق هذه الغاية للبشرية جمعاء حتى قيام الساعة كان لا بد من بقائه سليماً وكاملاً، ولذلك قال الله عز وجل: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر، 9).
وهذا التعهد الرباني بحفظ القرآن الكريم من أهم ميزات القرآن على الكتب السماوية السابقة، والتي تعرضت للضياع والتحريف.
فالتوارة تقول إنها كانت مكتوبة في زمن موسى عليه السلام: (فجاء موسى وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام، فأجاب جميع الشعب بصوت واحد، وقالوا: كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل. فكتب موسى جميع أقوال الرب).. ثم قالوا: (وأخذ كتاب العهد، وقرأ في مسامع الشعب فقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له)، (سفر الخروج) (24/3).
لكن التوراة ضاعت من بني إسرائيل بسبب تسليط الله عليهم أعداءهم، ولذلك قام بعض أحبار اليهود بكتابة التوراة من محفوظاته أو من قبل نفسه، ولذلك لا يوجد للتوراة اليوم سند تاريخي معروف وموثق كما أنه لا يوجد مخطوط سليم للتوراة معروف بين الباحثين، بل هناك خلاف كبير وبون شاسع بين النص اليوناني والنص العبري للتوراة في عدد الأسفار، حيث في النص اليوناني تتكون التوراة من ستة وأربعين سفراً، أما التوراة العبرية فهي تسعة وثلاثون سفراً، كما أن بينهما اختلافات كثيرة وعديدة مما يدل على أنهما من مصدرين مختلفين، فضلاً عن وجود حديث عن موسى عليه السلام بصيغة الغائب وعن موته، مما يؤكد أن هذه المواضع مقحمة على توارة موسى وأنها كتبت بعده.
أما الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام فلا يعرف هل كتب في زمنه ثم ضاع ؟ أم أنه كان كتاباً شفوياً ؟
لكن الذي يعرفه الباحثون أن الإنجيل المتداول اليوم لم يعرف إلا بعد المسيح عليه السلام بمدة تتراوح بين 100 – 170 سنة، ولعدم وجود نسخة معتمدة وموثوقة من الإنجيل تعددت نسخه حتى بلغت 300 إنجيل، لكن في مجمع نيقية (325م) تم اعتماد الأناجيل الأربعة (متّى، مرقس، لوقا، يوحنا) فقط دون ما سواها، ودون مبرر واضح.
ورغم ذلك فإن الأناجيل الأربعة ليست على نهج واحد وبينها اختلافات وتناقضات كثيرة تستعصي على التوفيق في أصول العقيدة كحياة وموت المسيح وطبيعته هل هي بشرية أم إلاهية، كما أن هذه الأناجيل تفتقد لوجود مخطوطات أصلية يمكن الوثوق بها للتأكد من مطابقة الموجود حالياً للنص الأصلي كما تقرر دائرة المعارف الكتابية.
أما بالنسبة للقرآن الكريم فالوضع مختلف تماماً، إذ تعهد الله عز وجل بحفظه من الضياع أو العبث، ولذلك فإن ثبوت نص القرآن الكريم وسلامته من العبث هو محل اتفاق بين الباحثين المسلمين وغير المسلمين، وهو الأمر الذي فشل كل من حاول نقضه من الباطنيين والفلاسفة والمستشرقين والحداثيين.
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وحفظ الله عز وجل لكلامه وكتابه مر بعدة أطوار:
فالطور الأول: زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مبادراً لحفظ القرآن الكريم، فطمأنهُ الله تعالى بأن حفظ وبيان القرآن إليه سبحانه وتعالى، كما قال: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه" (القيامة، 16-17)، وقال ابن عباس: ("إن علينا جمعه وقرآنه" جَمْعُـهُ لك في صدرك وَتَقْرَأَه).
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحفيظ القرآن الكريم للصحابة رضوان الله عليهم، فعن عبادة بن الصامت، قال: "كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قدم عليه مهاجر دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن"، رواه الإمام أحمد.
ولذلك كان جمع كبير يصعب حصره من الصحابة رضوان الله عليهم يحفظ القرآن الكريم كاملاً، فقد ثبت في الصحيحين أنه قتل في بئر معونة سبعون من القراء، وكان هؤلاء الصحابة يحرصون على تعليم القرآن الكريم لمن يدخل في الإسلام امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، رواه البخاري.
ولذلك لما جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، تمحورت أسانيد القراء العشرة على ثمانية من الصحابة هم: عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، أُبيّ بن كعب، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، أبو موسى الأشعري، أبو الدرداء.
ومعلوم أن العرب كانت أمة أمية تمتاز بسعة الحفظ ومتانته، وهذا أمر شائع بين المجتمعات ذات الثقافة الشفوية، فإذاً حفظ القرآن الكريم كان شائعاً في مجتمع المدينة وبين الصحابة بخلاف بعض الأديان التي تحصر مطالعة وحفظ النص المقدس على طبقة أو رتبة معينة.
وكان حفظ القرآن يتم بإشراف النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يارسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال لي: "إقرأ" فقرأت، فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه"، رواه البخاري ومسلم.
وليس هذا فحسب، بل نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن الكريم، فعن أبي سعيد الخُدري أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: "لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن"، رواه مسلم.
ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين وكتابة القرآن أنه خصص مجموعة من أصحابه لكتابة القرآن الكريم، وكان يطلق عليهم لقب (كتبة الوحي)، منهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومنهم: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، أبيُّ بن كعب الأنصاري، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، معاوية بن أبي سفيان، عبد الله بن أرقم بن أبي الأرقم.
فعن عثمان بن عفان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" رواه الإمام أحمد.
وبهذا يتبين لنا أن القرآن الكريم كان يُدون ويُكتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبل مجموعة مخصوصة، بخلاف التوارة والإنجيل اللذين لا يعرف كتبتهم ولا ما وصلنا اليوم منهما مما كتب في زمن موسى وعيسى عليهما السلام.
ويبقى أن نضيف أن القرآن الكريم كان يتم مراجعته سنويا في رمضان بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، فعن فاطمة قالت: إنه أَسر إليّ فقال: إن جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أَجلي"، رواه البخاري، فكانت هذه العرضة الأخيرة بمنزلة المراجعة النهائية للكتاب الحكيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها.
الخلاصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على حفظ القرآن الكريم، وحرص على أن ينتشر حفظ القرآن الكريم بين الصحابة، وأمر بكتابة القرآن واتخذ لذلك مجموعة مخصوصة من الكتاب، وكان يتدارس القرآن الكريم سنوياً مع جبريل عليه السلام.
في المقال القادم: عبقرية الصحابة في حفظ القرآن الكريم.
حفظ القرآن الكريم زمن النبي صلى الله عليه وسلم
2014/06/01
الرابط المختصر
Image