لا يجهل عاقل أن أمة الإسلام اليوم تجابه تحديات ضخمة جدا وعلى كافة الأصعدة، لكن قد يجهل كثير من العامة والخاصة الحجم الحقيقي لهذه التحديات وتنوعها وأساليبها وأدواتها، ولذلك قد نجد من له جهد مشكور في قضية معينة سواء فردا كان أو جماعة أو مجتمعا أو حكومة، ثم نجد أنه قد تورط في قضية أخرى مما تواجهه الأمة من تحديات.
وهذا الخلل في واقع مكونات الأمة بشكل عام هو خلل طبيعي نتيجة تباين العلم والفهم للواقع والحقيقة وتفاوت القدرة على اجتراح الحلول وتغاير الهمم والعزيمة واختلاف القوى والقدرات.
ومن المؤسف أن يستثمر الأعداء هذا الحال لمصلحتهم بتركيزهم على توسيع الشقة وترسيخ الخصام ببث الإشاعات وتوليد الأكاذيب، والمؤسف أكثر هو استجابة قطاع واسع منا لهذه الأكاذيب بل أصبح منا من يتولى مهمة الكذب والافتراء على إخوانه ليحقق غاية الأعداء بتفتيت ما تبقى لنا من قوة ووحدة!
وهذا الحال "المائل" هو من أخطر ما يهدد بقاء الأمة لأن الهدم من الداخل يصعب إعادة بنائه ويفتح المجال واسعا للخصوم بالهجوم بحرية، ومجابهة هذا الوضع الخطير مسؤولية الجميع، ويمكن ذكر بعض الخطوات اللازمة والضرورية.
فعلى خاصة أهل السنة والجماعة من طلبة العلم والدعاة والعلماء الذين فضّلهم الله عز وجل وشرّفهم باتباع الكتاب والسنة والتزام نهج الصحابة والأئمة من التابعين وغيرهم أن يحرصوا على وحدتهم وألاّ تفتتهم الأزمات السياسية أو الصراعات الحزبية، لأنهم أمل الأمة والمصباح الذي ينير دربها.
فإتقانهم للعلم الشرعي لا يعني إتقانهم للعمل السياسي، كما أن عواطفهم السليمة ليست مقياسًا لتحديد المصالح والمفاسد، ومع شدة تعقيد المشهد السياسي وتضارب مشاريع الخصوم على أمتنا وتفرق دولنا لمحاور متصارعة برغم ضعفها وعجزها، فإن ذلك كله يشكل حالة ضبابية يصعب فيها تحديد موقف سياسي صحيح وسليم على كافة الأصعدة، مما قد يوقع البعض في أخطاء، فليكن العذر والتسامح هو الأصل ولا نَنجر لحملات التشويه والإسقاط والحروب الأهلية البينية التي يسعى لها حمقى غلاة التبديع ولا خبثاء الحزبية ولا كهنة التطرف والغلو من الداخل أو عمائم الرافضة ورتب المخابرات الدولية ودهاقنة المراكز الغربية والشرقية.
فاختلاف آرائكم مفهوم في مثل هذه الحالة الضبابية، ولكن التشرذم والتنازع والتفتت غير مبرر ولا مقبول، لنُبقِ على وحدتنا العامة برغم اختلافنا السياسي، والذي سرعان ما يزول قدر كبير من الضباب وينكشف المشهد عن حقائق تنهي قدرا كبيرا من الخصام حوله.
وليتذكر كثير من شباب أهل السنة المتحمس كيف كان الحال قبل عقود من اعتراضٍ على بعض الاختيارات الشرعية السياسية للأئمة الثلاثة (ابن باز والألباني وابن عثيمين) مثل جواز دخول البرلمانات، وفصل العمل الدعوي عن العمل السياسي، وعدم الصدام مع الأنظمة، وكيف أن المعترضين من شباب أهل السنة بتأثير من أطروحات الآخرين عادوا لقبول كل اختيارات الأئمة بعد سنوات، بل أصبح هذا يعد تجديدا واجتهادا عصريا وفتحا في باب السياسة الشرعية، وحقيقته أنه موقف أئمتنا من القديم!
وأيضا على الحركات الإسلامية وشبابها -خاصة جماعة الإخوان المسلمين- الحرص على ما تبقّى من وحدة الأمة وقوتها، ولا يجوز أن تقدم هذه الحركات مصالحها الخاصة على مصلحة عموم الأمة، فليس من المقبول والجائز شرعا أن تجعل جماعة الإخوان من قضية الانقلاب في مصر قضية الأمة، نعم لها الحق في أن تتبنى رأيا وموقفا لكن لا تُلزم به غيرها، ثم تجعله معيارا للقبول والرفض، فأي فرد أو تيار أو مجتمع أو دولة خالفها أسقطته وخونته.
لقد فقدت جماعة الإخوان الحكمَ في مصر ثم فقدت شرعية وجودها هناك، وخسرت كل مكتسباتها وفقدت الكثير من كوادرها بالسجن والتشريد والقتل، وهذا كله يفتت وحدة الأمة وقوتها، وبقاء هذه الدوامة خطأ كبير.
والعجيب أن واقع جماعات الإخوان وحلفائها من الحركات الإسلامية في البلدان المختلفة يتناقض مع حالها في مصر، فهي في العراق شاركت بالانقلاب على نظام صدام واستدعاء الاحتلال الأمريكي ثم انضمت للحكم تحت راية أمريكا ومن ثم إيران ولا تزال مشاركةً في الحكم الاستبدادي وبرغم جرائمه التي تفوق ما حصل في مصر! وفي تونس تشارك في الحكم مع حزب علماني متطرف وتقدم له التنازلات التي رفضت تقديمها في مصر، وفي المغرب تتولى رئاسة الحكومة الشكلية، ومؤخراً أقرت اللغة الفرنسية في التعليم! فلماذا تحرص جماعة الاخوان وحلفاؤها على استقرار الوضع في هذه البلاد برغم حالها المائل؟ هل فقط لأنها أُقصيت من الحكم في مصر؟ ألم يكن هذا موقفها حين انقلب عسكر الجزائر على فوز جبهة الإنقاذ فتحالف الإخوان مع العسكر! وفي مصر حين تصارعت الجماعة الإسلامية مع نظام مبارك ألم يُدِن الإخوان عمليات الجماعة الإسلامية! فلماذا تبدل موقفهم اليوم! ظُلم الإخوان من العسكر، نعم، لكنهم ظَلموا أنفسهم أولا.
والواجب على الإخوان طيّ صفحة الانقلاب في مصر ليحفظوا ما تبقى لهم ولمصر من قوة، ولعل بيان الجماعة الأخير خطوة في طريق ذلك، وعلى فرض إصرارهم على الصراع: فلا تجعلوا من صراعكم من نظام أو أنظمة صراعا مع شعوب وتيارات وعلماء، فعلى جميع الحالات الرابح الوحيد من صراعكم هو عدو الأمة.
وكما تحرص جماعة/جماعات الاخوان هي نفسها على ما تبقى من وحدتها وقوتها عبر تقديم تنازلات سياسية هنا وهناك أو تنازلات فكرية تحت اسم مراجعات أو وثائق جديدة أو عبر تفاهمات وتحالفات كتفاهم حركة حماس مع مصر أو تحالف حماس مع إيران، فعليها أيضا أن تتجنب إشعال الفتنة المضرة بوحدة الأمة سواء عبر إسقاط العلماء أو التيارات الأخرى فقط لأنهم لم يوافقوها، أو زعزعتها للأمن في البلاد ببثّ الإشاعات والأكاذيب، وعليها أن تتفهم خيارات الفرقاء الإسلاميين المختلفة عنهم.
حفظ وحدتنا وقوتنا أولوية بالغة
2019/07/01
الرابط المختصر
Image