حول السياسة الشرعية

الرابط المختصر
Image
حول السياسة الشرعية

دار جدل ونقاش في الأسبوع الماضي حول نموذج من نماذج السياسة الشرعية وذلك في مؤتمر "كوسوفا والعرب" والذي دعا له مركز القدس للدراسات السياسية بعمان. تركز الجدل حول ما قام به الرئيس الكوسوفى السابق إبراهيم روغوفا من تقديم الخيار السياسي والدبلوماسي على الخيار العسكري خلافاً للزعيم البوسنوى علي عزت بيغو فيتش. ومعلوم أن كوسوفا قد حصلت على الاستقلال مؤخراً وبدعم من أمريكا وأوروبا بعد عشرة أعوام من المفاوضات الشاقة مع الصرب المدعومين من روسيا، وقد اعترفت بها مجموعة من دول العالم ليس فيها دولة عربية واحدة! من النقاط التي دار حولها الجدل: هل يجوز شكر أمريكا على دعمها وموقفها في كوسوفا الذي أنقذ أرواح وممتلكات المسلمين من الإبادة والفناء؟ أم أن هذه الحسنة هي لغايات سيئة خفية كما يزعم البعض! هل يمكن الاستفادة من هذا النموذج في أماكن أخرى من العالم الإسلامي؟ هل هذا الخيار هو الخيار الصحيح أم كان لا بد من خيار الجهاد والقتال ولو قتل ألاف المسلمين وجردت دمائهم أنهاراً في مذابح الإبادة الوحشية كما حدث في البوسنة ؟ هذا الجدل حول ما جرى في كوسوفا يعيدنا إلى قضية في غاية الأهمية وهي "السياسة الشرعية" الواجب إتباعها في القضايا العامة، وغالب الخلاف والاختلاف بين العاملين في حقل العمل الإسلامي الرسمي والشعبي يدور حول ما هي السياسة الشرعية الصحيحة في هذا الموقف.   عرّف العلامة ابن عقيل السياسة الشرعية بأنها " ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي " وهو معنى عام وواسع يدل على أن السياسة الشرعية تشمل المجالات التي ورد بها النص والتي لم يرد بها نص مطلقا.  أما د.عبد الوهاب خلاف فيعرف السياسة الشرعية بلغة عصرية بقوله:"  تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين" ، ولذلك ينبه الإمام ابن القيم من خطورة التسرع في التصدي لهذا الشأن الخطير فيقول : " وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها.. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه". وخطورة قضية "السياسة الشرعية" تنبع من أن الخطأ فيها يصعب تعويضه والاعتذار عنه، لأنه قد تزهق بسببه أرواح بريئة وقد تتلف بسببه أموال معصومة وترويع للمجتمع ، سوى ما يترتب عليه من الإثم الشرعي إذا كان صادراً عن غير مؤهل أصلاً للاجتهاد في باب " السياسة الشرعية".  ومن أبرز الأمثلة اليوم على مركزية قضية "السياسة الشرعية" في تصحيح مسار العمل الإسلامي ما نشهده اليوم مما يعرف "بالمراجعات" للحركات الجهادية، والتي بدأتها الجماعة الإسلامية ومن بعدها حركة الجهاد الإسلامي وبعض الشخصيات المرموقة مثل الشيخ سيد إمام وهناك أخبار عن تراجعات قادمة لدى "الجماعة الإسلامية المقاتلة" بليبيا. وقضية " السياسة الشرعية " الواجب إتباعها لا تزال محول نقاش وبحث لكثير من القضايا المعاصرة في التي تواجهها أمتنا اليوم مثل : المشاركة في الحكومات التي يؤسسها الاحتلال كما حدث في مشاركة الحزب الإسلامي العراقي والشيخ عبد رب الرسول سياف في العراق وأفغانستان، وهما من المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين. ومثل قيام حكومة حزب العدالة والتنمية التركي بدور الوسيط أو العراب بين إسرائيل وسوريا! أو السكوت عن مجزرة سجن صيدانيا بحق المسلمين بحجة حساسية وضع حركة حماس بسوريا! أو ما هو الموقف الصحيح من أمريكا هل هو العداء المطلق أم الولاء المطلق أم التقاطع بحسب المصلحة. هل يجوز السكوت و التغاضي عن الوقائع الثابتة على الأرض من قتل وإبادة وطائفية بحجة عدم توهين صف " الممانعة " رغم استعداد " الممانعة " لعقد صفقة مع " الشيطان الأكبر " إذا دفع ثمن مقبول من كرامتنا وحريتنا!! من اللافت للنظر هو إزواجية النظرة تجاه كثير من القضايا " السياسة الشرعية " لدى كثير من العاملين في حقل العمل الإسلامي، فهي جريمة إذا كان من يقوم بها طرف أو جهة ليست من حزبنا أو فكرنا وهي مستورة ومعفو عنها إذا كانت من جماعتنا! " السياسة الشرعية " قضية كبرى لا يزال يمارسها كثير من غير المؤهلين لها، مما يرتب على أمتنا نتائج وتكاليف باهظة الثمن، ولا يجوز بقاء كثير من " السياسات الشرعية " بيد شباب متحمس أو قيادات "تكنوقراط إسلامية" ، أو موظفين رسميين، بل لابد أن تصدر " السياسات الشرعية " عن هيئة موثوقة في دينها وعلمها بالشرع والواقع و لا تقتصر على فئة دون أخرى سواء من الحركات الإسلامية أو الجهات الرسمية. كما أن تداعى المؤسسات الإسلامية المختصة كدوائر الإفتاء وكليات الشريعة والجمعيات الإسلامية لعقد مؤتمرات وندوات حول " السياسة الشرعية " للوصول إلى قواعد تضبط وتقنن للمسلمين اجتهاداتهم و مواقفهم حتى لا نبقى ندور في دائرة مغلقة من التجارب القاصرة والخاسرة، أصبح من الضرورة بمكان.