من الثوابت الإسلامية إكمال الدين وتمامه لقوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا " (المائدة 3)، وهذا يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نجح في إيصال الرسالة وأداء الأمانة، من خلال تربيته لأصحابه رضوان الله عليهم حتى رضي الله عز وجل عنهم " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " (الفتح 18).
ومن إكمال الدين وحفظه معرفة الصحابة الكرام بدقائق الدين والقدرة على جدال غير المسلمين ونبذ البدع والإنحرافات من المنتسبين للإسلام، ومن الأمثلة على ذلك الإيمان بالقضاء والقدر وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وهي القضية التي ضلت فيها البشرية عبر العصور وابتعدت فيها عن منهج الأنبياء، فالباحثون في الفرق والأديان يذكرون وجود فرقة الجبرية والقدرية عند اليهود والنصاري، بل ينقل د. ألبير نصرى في كتابه " فلسفة المعتزلة" يخبرنا بوجود فرقة تدعى باسم المعتزلة عند النصارى وأنهم قدرية أيضاً كمعتزلة المسلمين !
ويؤيد هذا حادثة الفاروق عمر رضي الله عنه مع رئيس النصاري الجاثليق حين اعترض على قول عمر:" من يضلل فلا هادي الله "، فبين له عمر " إن الله عز وجل حين خلق الخلق خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما يعملون، ثم قال هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه ". رواه اللالكائي.
وضلال البشرية في موضوع القضاء والقدر ضلال قديم، ففي القرن الخامس قبل الميلاد كتبت المسرحية الإغريقية (أوديب) والتي مثال صارخ لفكرة الجبرية وأن أوديب كان مجبوراً على قتل والده والزواج بوالدته رغماً عنه !!
ولا تزال فكرة أن البطل مجبور على ارتكاب الشر مبثوثة في كثير من روايات نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم مثل قصته (الشهيد) والتي تقوم على فكرة خرافية وهي رفض الملائكة وشيخ الأزهر قبول توبة وإيمان الشيطان، الذي أصبح بذلك شهيداً!! وفكرة مظلومية الشيطان هي أساس معتقد عبدة الشيطان الذين تبعهم بعض شبابنا وللأسف.
إن الصحابة كانوا على علم بتفاصيل القضاء والقدر، ولذلك حين سئل عمر ابن الخطاب أحد السراق: لم سرقت؟ فقال: قضي الله علي بذلك، فقال له: فأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره"، وهذا من باب إلزامه الحجة وأن الإحتجاج بالقدر على الشرور ليس بصحيح.
ونجد في حوار أبي عبيدة والفاروق حول دخول مدينة عمواس التي انتشر بها الطاعون فهم دقيق للقضاء والقدر، فعمر رأى أن يرجع بالناس، لكن أبا عبيدة اعترض وقال: " أفرار من قدر الله؟ فأجابه عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللهِ ؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله" رواه البخاري.
إن القضاء والقدر في العقيدة الإسلامية التي تعلمها الصحابة الكرام من النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على أربعة أسس، هي:
1- الإيمان بعلم الله عز وجل الشامل والمحيط، ولعلنا اليوم أكثر قدرة على فهم شمولية علم الله واحاطته من خلال اكتشاف العلماء كل يوم لكائنات جديدة ولوظائف جديدة لكثير من الكائنات تعمل على إدامة التوازن البيئي في وجه التخريب البشري المستمر عبر التاريخ، فهذه الكائنات خلقت لعلم الله الشامل والمحيط بكارثية أفعال البشر وأنها يجب أن تقاوم بشكل دائم ودون تدخل لتدوم الحياة " هو الله لا إله هو عالم الغيب والشهادة" (الحشر18).
2- الإيمان بكتابة الله عز وجل في اللوح المحفوظ لكل شيئ، فإذا كان البشر قد تمكنوا من تدوين الكثير من المعلومات بواسطة أجهزة الحاسوب، فإن رب البشر قادر على كتابة كل شيئ من يوم خلق الخلق وإلى أن نهاية العالم، قال صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان، وما كائن إلى الأبد" رواه الترمذي.
3- الإيمان بمشيئة الله عز وجل النافذة وقدرته الشاملة، فلا وجود لشيء في الوجود إلا بمشيئة الله عز وجل وخلقه، ولكن هذا لا يعنى حب الله عز وجل لكل ما خلق وشاء وجوده مثل الشر والكفر والشيطان، ولكن حكمة الله من وجود هذه المخلوقات هو منح الإنسان القدرة على الإختيار ومحاسبته عليه، "وما تشاءون إلا أن يشاء الله" (التكوير29).
4- الإيمان بأن الله عز وجل هو خالق كل شيء، " الله خالق كل شيء" (الزمر 62).
هذه هي أسس الإيمان بالقضاء والقدر، لكن بعض المسلمين لم يستوعب هذه الأسس كاملة فأصبحوا فريقين:
1- فريق سموا بالجبرية وهم الذين اعتقدوا أنه بما أن الله عز وجل خلق كل شيء ومنها أفعالهم الجيدة والسيئة فإن الله يحبها ويرضاها لهم، وأنهم بذلك مجبورون على أفعالهم، وخطورة هذا الفكر أنه يقضى على نوازع أفعال الخير لدى الناس، ويبرر كل الشرور والآثام ويحمى الأشرار من مسؤولية أفعالهم، كما أن الجبرية تولد في الأمة الركون للظلم والطغيان وعدم المقاومة بحجة حب الله ورضاه للطغاة والمحتلين كما يروجه بعض الصوفية في أزمنة الانحطاط، ومثل هذا التدين المنحرف يصدق عليهم قولهم "الدين أفيون الشعوب" !!
2- فريق آخر سموا بالقدرية وهم رد فعل للجبرية، فقد نفوا أن يعرف الله الأشياء قبل وقوعها، ونفوا أيضاً أن تكون أفعال الإنسان مخلوقة من مخلوقات الله بل الإنسان يخلق أفعاله، حتى يثبتوا حرية الإنسان في الإختيار، وهؤلاء مع طعنهم في شمولية علم الله عز وجل، فإنهم في حركتهم يغفلون عن سنن الله عز وجل في الكون والتي منها دور الزمن في التغيير، ولذلك تجد أن الإستعجال والتهور والعنف لتغيير الأحوال هو سبيلهم مما يتولد عنه كثير من الشرور والمفاسد، لأنهم يصطدمون بالسنن الكونية التي أقرها الله عز وجل بضرورة مراعاة عامل الزمن لنجاح التغيير حين تنضج الظروف المواتية.
وخطأ الفريقين هو بسبب عدم تفريقهم بين خلق الله لكل شيء ومحبة الله لبعض مخلوقاته، فمن اعتقد أن الكفر والشر ليسا من مخلوقات الله اعتقد أن هناك خالقاً غير الله وهذا كفر محض، ولكن الصواب أن الله خلق الكفر والشر ولم يحبه ويرضاه من الناس، ولو لم يخلق الله الخير والشر لما أصبح للطاعة معنى ولا لثواب المطيع فائدة لعدم وجود الشر أصلاً!!
ولذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم " مجوس هذه الامة" لأنهم يثبتون خالقين، أما احتجاج الجهلة بأن الله قد كتب ذلك عليه، فكتابة الله حق لكنها غيب لا نعلمها فلا تأثير لها على اختيارنا، ويضرب العلماء لها مثلاً بعلم وتوقع المعلم والمربي لنتيجة طالب من طلابه في الإمتحان، وأن حصول الطالب على نفس النتيجة مبنى على علم المربي وليس جبره للطالب.
ويبقى أن الإيمان بالقضاء والقدر هو في جانب كبير منه هو من الإيمان بالغيب، فلذلك لا يتمكن العقل البشري من الإحاطة بكل جوانبه، كما هو يعجز عن الإحاطة بكثير من المخلوقات حوله مثل عقله وروحه.
خطر الإنحراف عن منهج الصحابة 2- حالة الجبرية والقدرية
2014/06/01
الرابط المختصر
Image