لا بد في كل دين أو قانون من ممنوعات ومحرمات حتى تستقيم حياة الناس، وإلا كان التعدي والظلم والغش مباحاً، ولكون المنع أوالتحريم لابد أن يهدف للحفاظ على المصلحة العامة فإن تقرير ذلك لا بد فيه من العلم بالمضرة والمنفعة على المستوى القريب والبعيد، كما أن المنع أو التحريم يراعي مصلحة الأغلبية لا مصلحة فئة محدودة قد تتضرر جزئياً من المنع!!
وبسبب الجهل والهوى والضعف البشري فإن قائمة الممنوعات والمحرمات عبر التاريخ والتي قررها بعض الناس بسبب سلطتهم الفكرية أو القهرية شملت العديد من الأشياء المفيدة والحسنة دون سبب وجيه سوى انحراف الفكر وسيطرة الشر، مثل تحريم الزواج على بعض الرجال وتحريم الطلاق وتحريم أكل الطعام اللذيذ ولبس الجميل من اللباس بحجة الزهد وغير ذلك من المحرمات دون وجه حق، قال تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف 32).
وكم ضمت قائمة المباحات التي وضعها البشر من طامات وبلايا، أقرتها الشهوات وضجت منها العقول بعد حلول الكوارث، وما سيل الأخبار والنصائح بتجنب العديد من المطعومات والمأكولات والسلوكيات لجنايتها على الصحة والحياة إلا برهان ذلك ولعل عادة التدخين ومشاعية العلاقات الجنسية من أبرز الأمثلة على ذلك.
وسبب هذا التخبط البشري عبر التاريخ هو الإنحراف عن شرع الله ودينه لجهل وهوى أو لإعراض واستكبار عن طاعة الله عزوجل، ولذلك فإن الإسلام جعل التحريم من حق الله عزوجل فقط، لأنه الخالق المدبر العليم بما يصلح أحوال الخلق جميعاً.
مما لا بد أن يكون معلوماً أن دائرة الحرام في الإسلام دائرة محدودة يمكن حصرها وعدّها بخلاف دائرة الحلال، وقد صرح القرآن بذلك في قوله تعالى: "وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم" (الأنعام 119)، وبسبب هذا التفصيل فإنه يمكن للمسلم تعداد المحرمات من المأكولات والمشروبات على أصابع اليدين، لكنه لن يستطيع عدَّ أنواع الطعام والشراب الحلال، وكذلك الحال في اللباس والزينة والمسكن وأدوات المعيشة وأنواع التجارة والمعاملات.
إن دائرة الحرام صغيرة جداً بالمقارنة بدائرة الحلال، لكن الشيطان وأصحاب الشهوات يملؤون الدنيا صراخاً: لقد حرمتم كل شيء، وفي الحقيقة أن ذلك أفك مبين لأنهم يهملون كل المباحات ويهدفون فقط لتحليل الحرام وتحريم الحرام كسلفهم من قبل قوم لوط حين حكى القرآن عن موقفهم من نبي الله لوط عليه السلام: "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" (النمل 56).
ولسعة دائرة المباح والحلال في الأشياء فإن العلماء اتفقوا على قاعدة أصولية تنص على أن: "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بالتحريم"، ولذلك فالمسلم لا يسأل عن دليل لحلِّ ومشروعية الأشياء بل الذي يزعم التحريم هو المطالب بالدليل.
هذا كان بخصوص مساحة الحرام في الإسلام أما عن نوعية الحرام في الإسلام فإن القرآن أعلن وبكل وضوح أن المحرمات هي فقط الخبائث والمنكرات، قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته: "ويحرم عليهم الخبائث" (الأعراف 157)، كما بين القرآن أن الحلال هو الطيب كما في قوله تعالى: "يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات" (المائدة 4)، وهذا عام في كل حلال أنه طيب، وفي كل حرام أنه خبيث ومنكر.
ولو استعرضنا الأشياء المحرمة في الاسلام ودرسناها دراسة دقيقة وافية, لوجدنا أنها من المنكرات والخبائث، وتحريمها جاء لحماية الإنسانية كلها، من السلوكيات والأشياء كالأطعمة والمشروبات والملبوسات التي تضر الفرد والمجتمع على صعيد الفكر والنفس والبدن.
ففي مجال الفكر حرم الاسلام الكفر والشرك بالله ووصفه بمالا يصح, لأنه جحود لحق الله عزوجل كما أنه بوابة الوقوع في محرمات أخرى كالشعوذة والخرافة وتجميد الفكر والتقليد الاعمى, وفي المجال النفسي حرم الإسلام كل ما يعمل على إفساد وجدان وضمير الإنسان كالحسد والحقد, وكذلك حرم الإسلام كل ما يضر بصحة الجسم والعقل فحرم شرب الخمر والزنا وأكل لحم الكلب والخنزير, وكذلك في بقية مجالات الحياة كالسياسة والاقتصاد والقضاء والتعليم، فحرم الاستبداد والطغيان والظلم، وحرم الربا والاحتكار والغش والسرقة والرشوة وشهادة الزور وقتل النفس والقمار وحرم تعلم المفاهيم الهدامة وبثها كالإلحاد والإباحية والثقافات التي تقود إلى التحلل والانهيار الأخلاقي والفكري.
والتحريم قد يكون لذات الشيء كالخمر ولحم الخنزير وقد يكون لسبب إضافي فالعنب حلال أكله وحلال بيعه وشراؤه ولكن بيعه لمصنع خمور يصبح حراماً من باب التعاون على الإثم والعدوان وكذلك بيع السكين للمطبخ حلال لكن بيع السكين لمجرم يريد الاعتداء بها على الآخرين يصبح حراماً.
ولذلك فإن من جوانب الإيمان بالغيب: الإيمان بأن كل ما حرمه الإسلام هو خبيث ومنكر وفيه ضرر على الإنسان والحيوان والبيئة أيضاً، وقد يكون هذا الضرر مادياً أو معنوياً وقد يكون مباشرا أو غير مباشر، وقد نعلم ضرره اليوم وقد لا نعلم إلا بعد سنين طويلة، كما تبين في هذا العصر بفضل التطور العلمي كثير من مضار المحرمات في الإسلام كضرر أكل الخنزير والسباع وضرر الزنا والفحش وأخيراً كارثية الربا رغم كل التقنيات التكنولوجية المتطورة التي تسير بها البنوك التجارية والمركزية.
دائرة الحرام في الإسلام
2014/08/01
الرابط المختصر
Image