حذرنا الله عز وجل من مكر الكفار بأهل الإيمان والإسلام، قال تعالى: "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال" (إبراهيم: 46)، وتاريخ مكر/ مؤامرة الكفار بأهل الإسلام قديم منذ الصدر الأول، ومن صورِه الأولى تعاون كفار قريش واليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، حتى أن كفار قريش سألوا اليهود: أيّنا على الحق، نحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فسطر الله جواب اليهود في القرآن الكريم لنعلم دوام تعاون الفجار والكفار على أهل التوحيد، فقال تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" (النساء: 51).
ومثال ثان على هذا المكر الكبار، اتفاق بعض اليهود على زعزعة صف المؤمنين بافتعال حركة ردة ونكوص عن الإسلام، قال تعالى: "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" (آل عمران: 72).
ومثال ثالث لهذا المكر، وهو محاولة ملك الروم استمالة كعب بن مالك أحد الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حين أرسل له رسالة قال فيها: "فإنه قد بلغنا أن صاحبك قلاك وهجرك وأنت ما جعلك الله في دار هوان ومضيعة، فالْحق بنا نواسك"، والمهم في هذه الرسالة متابعة ملك الروم في الشام لمجريات الحياة في المدينة المنورة، ومحاولة زعزعة ولاء المواطنين فيها تجاه القيادة النبوية، مما يكشف جانبا مجهولا من ضخامة المكر/ المؤامرات تجاه الرسالة المحمدية وأتباعها منذ وقت مبكر.
ثم جاءت حركة الردة بقيادة الدجاجلة من أمثال سجاح ومسيلمة الكذاب، وبعد كسر شوكتهم، وتفرق شملهم في بلاد الإسلام، إلا أن نفراً منهم بقوا حاقدين على انتصار الإسلام ورفعته وعلو مكانته، وأصبح هؤلاء نقطة جذب لكل الحاقدين والموتورين على الإسلام، فاجتمعوا مع المنافقين والقدماء والمنافقين الجدد من أتباع الديانات الأخرى كاليهود والمجوس والنصارى، ثم أصبح هؤلاء أركان فرقة/ جمعية السبئية التي قادت الاضطرابات في مصر والكوفة والبصرة ضد مركز الخلافة، ثم نفذت مخططها الإرهابي بقتل الخليفة عبر ميلشيات عسكرية استقدمتها من خارج المدينة تحت ستار أنهم قوافل للحجيج، وهو نفس المخطط الذي تكرر تقريباً في عصرنا الحديث: مرة على يد جماعة جهيمان، ومرة على يد الحرس الثوري الإيراني.
وأصبح من أبرز أعمالهم اجتذاب المسلمين الصادقين ممن لهم خصومة مع الحكومة الإسلامية المركزية وتحريضهم على الخليفة وولاته في الأمصار، ومن تلك الجرائم التي اضطلع بها بقايا المرتدين الحاقدين ما حدث في مصر مع محمد بن أبي حذيفة.
ومحمد بن أبي حذيفة كان يتيماً في كفالة عثمان بن عفان، ولما أصبح عثمان الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه، طلب منه ابن أبي حذيفة أن يوليه إمارةً، لكن عثمان لم يستجب له لأنه لا يصلح لذلك، فهنا حَقد عليه محمد، وطلب أن يسافر ويخرج من المدينة المنورة، فأذن له عثمان وجهزه من ماله الخاص، فسافر لمصر.
وهناك تلاقى حقده وغضبه مع تحريض المندسّين والمنافقين، فأصبح مصدر إزعاج وقلق لوالي عثمان على مصر، عبد الله بن أبي السرح، وقد رويت عنه قصص كثيرة في تأليبه أهل مصر على عثمان وواليه على مصر، لكن قصةً منها استوقفتني لما فيها من مشابهة كبيرة جداً لما نراه من مواقف حمق وخيانة داعش اليوم لأمة الإسلام.
يروي الطبري في تاريخه في أخبار سنة 31 للهجرة، عن معركة بحرية بين المسلمين في مصر والروم، وبعد قتال شديد انتصر المسلمون برغم قلة عددهم وعدد سفنهم مقارنة بالروم، ولم يشارك محمد بن أبي حذيفة في القتال وبقي يتفرج لأن القائد عبدالله بن أبي السرح منعه من الركوب معه لما يُحدثه من قلاقل ومشاكل.
فركب ابن أبي حذيفة مركبا مع بعض القبط وأخذ يتفرج، فلما انتصر المسلمون على عدوهم، لم يفرح بذلك ابن أبي حذيفة بل أخذ يشكك في جهاد المجاهدين ويثبط من عزائمهم، ويحرض على عثمان رضي الله عنه في المدينة!!
يقول الطبري: "ثم إن الله نصر المؤمنين ... وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل: أما واللَّهِ لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا.
فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عُثْمَان بن عَفَّانَ فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا، حَتَّى أفسد الناس، فقدموا بلدهم وَقَدْ أفسدهم، وأظهروا من القول مَا لم يكونوا ينطقون بِهِ"، ومن أقوال محمد بن أبي حذيفة التي أشاعها بين الناس أن دم عثمان حلال!!
ومن يتأمل ما تقوم به داعش اليوم من إبطال جهاد المجاهدين ضد الطاغية في الشام، والتأليب على كثير من قادة المجاهدين في الشام، بل وقتْلهم وتفجيرهم فضلاً عن مئات وألوف المجاهدين وأهاليهم، يجد مطابقة شديدة لقول وفعل محمد بن أبي حذيفة، الذي قال: أما والله لقد تركنا الجهاد خلفنا!! ولما زحفت جموع السبئيين على دار الخلافة بالمدينة المنورة سنة 35ه ، انتفض ابن أي حذيفة في مصر واستولى عليها!!
ثم حين تجد داعش تنشط في تهديد كل دولة وسلطة تخوض صراعاً عسكرياً مع أعداء الأمة، ثم تنفّذ ما تهدد به، إلا في إيران وإسرائيل، تشعر وكأن ابن سبأ لا يزال يعيش بيننا بشحمه ولحمه، فداعش هددت السعودية ونفذت، وهددت تركيا ونفذت، وهددت حماس في غزة ونفذت، في الوقت الذي كلّ هذه الدول يُفترض أنها تقاتل عدوا تعتبره داعش عدوا لها أيضا، ألا وهم الحوثيون وإيران والأكراد المتطرفون واليهود، لكن داعش ترى أن الجهاد الحقيقي هو جهاد السعودية وتركيا وحماس والفصائل السورية!!
إن مكر الكفار والفجار مكر كبير، مستمر لم ولن يتوقف، وإذا كان المنافقون في زمن النبوة لجؤوا لبناء مسجد يغطّون به مكرهم وحقدهم "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم" (التوبة: 110)، فإنهم في عصرنا هذا يتخذون من الجهاد ورايته غطاءً لمكرهم وحقدهم على الإسلام وأهله، ونحتاج إلى وعي دقيق وكبير لنَسلم من شرورهم.
داعش عصر الراشدين وسبئية حاضرنا!!
2015/09/01
الرابط المختصر
Image