"دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه"

الرابط المختصر
Image
"دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه"

هذا هو عنوان أول كتب د. عبد الرحمن بدوي في سلسلته الثلاثية الأخيرة، "دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه" و"دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره" و"ترجمة سيرة ابن هشام إلى الفرنسية"، والتي ألفها دفاعاً عن الإسلام والقرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أحسنت مجلة الأزهر في تقديم هذا الكتاب هدية لقرائها، وبمقدمة مهمة عن سيرة د. بدوي ومنهجية الكتاب للدكتور محمد عمارة.
وقد جاءت هذه الكتب المتميزة بعد رحلة علمية وفلسفية طويلة غاص فيها د. البدوي بين مختلف الفلسفات والأديان والمذاهب والفرق، واختار من بينها "الفلسفة الوجودية" فاقتنع بها، وأصبح رمزها ورائدها الأول في العالم العربي، ثم في خاتمة حياته أدرك بوضوح خواء الفلسفات الوضعية والمناهج والفرق المتنوعة، وأن الحق والرشاد هو في الإسلام، وحين سأل قبل وفاته بشهر رحمه الله (توفي 2002م)، ماذا تود أن تقول وأنت على فراش المرض؟ فأجاب: " لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن. أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلماً حقاً. إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت، وأنوى إن شاء الله –بعد شفائي- أن أكون جندياً للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد، والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون". أ.ه
وكلام د. البدوي هذا يذكرنا بكلام كثير من فلاسفة المسلمين السابقين الذين ندموا في خاتمة حياتهم على عبثية اشتغالهم الفلسفي بعدهم عن أنور الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ومن أمثلة ذلك ما قاله محمد بن عمر الرازي في كتابه أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال                    وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا             وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
وقال الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، .. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات (الرحمن على العرش استوى)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، وأقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء)، (ولا يحيطون به علماً)، ثم قال: "من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
والندم والحيرة هو ما وصل له الشهرستاني من الفلسفة فأنشد يقول:
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها      وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر           على ذقن أو قارعاً سن نادم
ود. البدوي في مسيرته العلمية الطويلة طالع ألوف المخطوطات النادرة، والتي جعلت لكته قوة وتميز، وزامل فيها مشاهير العلماء والباحثين، وتنقل في سبيلها بين الشرق العربي والفارسي والغرب، وكانت باريس مستقره الأخير والتي عاش فيها من قبل سنوات طويلة.
وفي سنواته الأخيرة في باريس لمس مقدار الحقد الأعمى والظالم على الإسلام، والذي ليس له دافع إلا التجني والظلم، وهنا تبينت مصداقيته العلمية والتي ترفض التزوير والدجل باسم العلم، فمع كونه فيلسوفاً وجودياً إلا أن العدل والعلم كانا ميزانه، فرفض أباطيل المستشرقين القدماء والسياسيين المعاصرين، وهذا أيقظ فيه الفطرة السليمة، وأدرك كم حاجة البشرية للإسلام لتخرج من شقائها الرهيب.
فكتب د. بدوي عن خلاصة العداء الذي لمسه في كتابات الغربيين تجاه الإسلام: "إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة .. فالغرب فيما يتعلق بالإسلام يكيل ليس بمكيالين فقط، بل ربما بعشرة أو ربما بمائة مكيال.. إن الغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه، ولذلك يرحب ويفسح المجال أمام ترجمة مؤلفات الكتاب العلمانيين دون غيرها.."، وهذا أمر أصبح من الحقيقة بمكان أن خصوم الإسلام وأعدائه هم من يتصدر المراكز البحثية عن الإسلام، وكيف تتوقع الموضوعية والنزاهة من هؤلاء؟ والمصيبة أن تجنى هؤلاء تعدى الكتب ليصبح سياسات مدمرة لبلاد المسلمين وأرواحهم. 
كتاب د. بدوى "دفاع عن القرآن" ارتكز على بيان خلل منهجية المستشرقين في مهاجمة القرآن الكريم، وأن هذا الخلل يقوم على الجهل باللغة العربية لغة القرآن مما تولد من هذا الجهل خطاء غاية في السخف، لكنها وجدت قبول ورضى عند المستشرقين والغربيين، لأنها وافقت عدائهم وبغضهم للإسلام.
وسبب أخر لخلل منهجية المستشرقين هو قلة اطلاعهم على المصادر الإسلامية الصحيحة، ثم يبدأ يشرق ويغرب وينسب معلومات ومواقف غير صحيحة للإسلام بناء على ظنون وأوهام لا أساس لها، دون تتبع وتقصى الحقيقة في المصادر الإسلامية.
وسبب ثالث يذكره بدوي وهو انطلاق هؤلاء المستشرقين الحاقدين من خلفياتهم اليهودية أو النصرانية في نقض القرآن الكريم، فلذلك اعتبر هؤلاء أن ذكر القرآن الكريم لقصص بعض الأنبياء السابقين والأمم السالفة هو اقتباس من التوراة والإنجيل، فرد عليهم د. بدوي شامتاً بقلة عقلهم بأن اقتباس النبي صلى الله عليه وسلم من الكتب السابقة لو كان من صنعه هو: " فلا بد أن محمداً كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل نصوص التلمود والأناجيل" !! ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف غير العربية ولم يكن يقرأ ويكتب حتى بالعربية، ليقطع الله عز وجل بذلك الطريق على مثل هذه الشبه المضحكة عند العقلاء، لكنها للأسف تخدع البسطاء والجهلاء.
ومما أثاره المستشرقون أن في القرآن الكريم أخبار وقصص لا تعرفها العرب، فلا بد أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد انتحل هذه القصص والأخبار من أهل الكتاب، ولكن د. بدوي فند هذا الزعم بقوله: " وكأنه يجب على القرآن الكريم حتى يكون بريئاً من أي انتحال أن يقول أشياء مخالفة للعلم العام أو الرشاد"، وهذا كله لأن المستشرقين واتباعهم من بنى جلدتنا لا يؤمنون أصلاً أن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أوحاه إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وليس هو كلام محمد عليه الصلاة والسلام.
كشف د. بدوى أن هذا العداء الغير موضوعي ولا علمي للقرآن الكريم بدء من النصف الثاني للقرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، ولا يزال مستمراً، وقد بدأه يوحنا الدمشقي (650-750م تقريباً)، ثم تبعه (أثيميوس زيجابينوس) في (كتابه العقيدة الشاملة)،أما (نيكيتاس البيزنطي) صاحب كتاب (نقد الأكاذيب الموجودة في كتاب العرب المحمديين) فهو أو هجوم مفصل على القرآن الكريم، واستعرض تاريخ هذا العداء للقرآن الكريم.
كتاب د. بدوي كما يقول: "لن نعالج بطبيعة الحال في هذا الكتاب كل القضايا التي أثارها المستشرقون بصدد القرآن، فلم نتطرق إلا لتلك القضايا التي بدت لنا أكثر أهمية، كما حصرنا بحثنا في الفترة ما بين منتصف القرن التاسع إلى منتصف القرن العشرين".
فتناول د. بدوى في كتابه 13 قضية أثارها المستشرقون وأثبت فيها تلاعبهم وتجنيهم على القرآن الكريم إما بجهلهم واستهتارهم بالمنهجية العلمية، وإما متعمدين قاصدين بدافع العداء والحقد، وهذه هي القضايا التي فندها:
 معنى وصف النبي بالأمية، الموازنة الخاطئة بين القرآن والعهد القديم، معنى كلمة فرقان، الافتراضات الخيالية لمرجوليوث، جولتسهير والقياس الخاطئ بين الإسلام واليهودية، الصابئون في القرآن، الرسل في القرآن، قراءة هللينية خيالية للقرآن، هل للبسملة مصدر في العهد القديم، فشل كل محاولة لترتيب زمني للقرآن، مشكلة الألفاظ الأعجمية في القرآن، "يا أخت هارون"، قضية هامان، وهي قضايا يتكرر طرحها من المخدوعين بالهجوم الاستشراقي المتزين بالموضوعية. 
هذه القضايا التي تعرض لها د. بدوي تمكن بجدارة من نقض كل البناء الإستشراقي فيها بعلم ومعرفة بحكم تخصصه وتبحره في التراث الإستشراقي، كما أنه قدم اجتهاده الخاص في بعض القضايا، وأظن أن حياته لو طالت وتبحر أكثر في التراث الإسلامي لغير بعضاً منها.
من جهة أخرى لم يغفل د. بدوى بيان موضوعية بعض المستشرقين مع القرآن الكريم مثل أدريان رولاند الهولندي، والذي قال: "يجب أن أعترف بكامل اليقين بعد دراسة عقلانية لديانة المحمدية أنني وجدت لمحمد وجهاً مختلفاً تماماً عن الذي قالوه عنه، مما ولد عندي الرغبة في تعريف العالم به وبالألوان التي تناسبه"، لكن هذا المستشرق الموضوعي إنما فعل ذلك لغاية واضحة وهي كما قال هو: "البحث عن الحقيقة حيثما وجدت، إن إغلاق الباب أمام الأكاذيب من كل صوب مهمة جديرة بالثناء في كل وقت، إذ تكشف للناس عن ديانة منتشرة غير محرفة... من هذا المنطلق فقط يمكننا إذن مهاجمتها بنجاح، وإن لم نستطع تدميرها فإننا نستطيع على الأقل تدمير وجودها في فكرنا"، وبذلك يكون رولاند عدو للقرآن والإسلام لكنه يرفض الكذب والخداع الذي يمارسه غالب المستشرقين.   
والخلاصة التي يصل لها القارئ للكتاب استشعار عظمة القرآن الكريم، والذي هو كلام الله عز وجل الذي تكفل بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: 9)، والذي لم يتمكن هؤلاء المنتقدين من تمرير باطلهم عليه بين شعوبهم وجهلة المسلمين إلا بالكذب والتزوير والخداع، وما أضعفه من سلاح وحجة.