دوماً العلم نقطة انطلاقنا نحو الفلاح في الدنيا والآخرة

الرابط المختصر
Image

من المتقرر عند المسلمين أهمية العلم وفضله، فأول ما نزل من الوحي كان الأمر بالقراءة، والقراءة لا تكون إلاّ بالعلم والتعلم، ويحدثنا القرآن الكريم عن تفضيل جنس الإنسان على الملائكة بالعلم "وعلم آدم الأسماءَ كلها" (البقرة: 31) ولذلك أمرَهم بالسجود له، بل جعل الله عز وجل المفاضلة بالعلم قانونا عاما للبشر فقال جل ذكره: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: 9).

والنبي صلى عليه وسلم في حياته وسيرته رسخ مكانة العلم بحَثّ أصحابه والناس من بعدهم على التعلم فقال: "من سلك طريقًا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة" رواه أبو داود وصحّحه الألباني، وأقام صلى الله عليه وسلم كثيرًا من سياساته على تعظيم أمر العلم فأمر زيد بن حارثة بتعلم السريانية ليتقي غدر اليهود، وأطلق بعضَ أسرى قريش شريطة تعليم أطفال المسلمين، وقبِل توظيف عِلم فارس التقني بحفر الخندق يوم الأحزاب، وكان يعتمد على أهل الاختصاص العلمي فهو يأمر حسان بن ثابت بالاستعانة بأبي بكر الصديق لكونه عالما بأنساب قريش قبل أن يهجو قريش، ويخصص عددا من الصحابة لكتابة الوحي، ويعلن اختصاصات الصحابة العلمية: "أقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" رواه أبو يعلى وصححه الألباني.

وعلى هذا المنوال سار الخلفاء الراشدون فبعثوا المعلمين للأمصار، وجمعوا المصحف ثم نسخوه وبثوه في الأقطار، وتفاعلوا مع علوم الأمم الأخرى فقبلوا استخدام الدواوين أولاً بغير العربية ثم عُرّبت لاحقا، ورعوا حركة التعليم حتى ظهرت المدارس لاحقا، وهكذا.

وبعد عصر الراشدين تواصلت المسيرة العلمية حتى أصبح المسلمون سادة العلم والتعليم فدانت لحكمهم البشرية قرونا طويلة في العالم، حتى دخلت عليهم الآفات بسبب ضعف حركة العلم والتعليم ثم انحرافها فانتشر الجهل وزالت القوة وانحلت عرى الوحدة فهجم على دولهم الأعداء واحتُل كثيرٌ منها فزاد الجهل والفقر والبدعة والخرافة والشرك في أطناب دول الإسلام.

كان هذا هو الحال حتى أتت -قبل عقود- مرحلة شهدت تحررا ظاهريا من قبضة الاستعمار وعَرفت نهضة عمرانية واقتصادية بسبب طفرة النفط بشكل خاص رافقها صحوة إسلامية عمت كثيرا من الناس بعد موجات من المد العلماني والشيوعي واليساري خصوصا.

واليوم نحن على أعتاب مرحلة جديدة تقلصت فيها أمية القراءة ولكن تتفاقم فيها أمية الوعي والفهم، تنتشر فيها أدوات الثقافة ووسائط الاتصال والتواصل لكن يترسخ فيها التضليل والخداع والانشغال بتوافه الأمور! مما يظهر من جديد أهمية التركيز على تثوير مفهوم العلم والمعرفة وجعله نقطة الانطلاق للفلاح في الدين والدنيا، فبغياب العلم أو انحرافه تعرض الإسلام والمسلمون لكافة الأزمات في هذا العصر.

فانتشار فكر الغلو والتكفير هو نتاج الجهل بالشريعة من جهة، والجهل بمآلات الغلو والتطرف، وهو أيضا نتيجة للانحراف في فهم نصوص الوحي وعدم التزام الفهم الشرعي للوحي.

ومثله الانخداع بدعايات الشيعة وشعارات الخميني وحزب الله الذي هو نتاج الجهل بالفكر الشيعي وخطورة العقيدة الرافضية وتاريخ الشيعة الأسود عبر العصور.

ونقص العلم هو سبب الفشل في استثمار الطفرة النفطية لتأسيس بنية تحتية صناعية دائمة وتلافي آفات الترف والاقتصاد الاستهلاكي.

وخلل المعرفة بالإدارة السليمة لبناء منظومة تعليم ناجحة هو سبب غياب الجامعات العربية عن قوائم الجامعات المرموقة عالميا برغم الميزانيات الضخمة.

وبسبب استبعاد معيار العلم والكفاءة في تولية المناصب نعيش في دوامة من الفوضى والخطط البائسة التي تنعكس على واقع الناس إخفاقات وأزمات ومشاكل متجددة، جعلت غالبية دولنا محكومة وأسيرة لوصفات صندوق النقد والبنك الدولي المهلكة.

وخلل العلم والمعرفة هو سبب تخبط المعارضة العربية في تقديم حلول ناجعة بديلة عن فشل الحكومات وفسادها.

إن ضبط مركزية دور العلم في تصحيح المسار هو نقطة الانطلاق الحقيقية للفلاح في الدين والدنيا والآخرة، وحين نتكلم عن العلم فإننا نقصد العلم بعمومه العلم الشرعي والعلم الدنيوي، وقد ألّف الشيخ عبد الرحمن السعدي كتابًا بعنوان "الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي" ليقرر فيه بوضوح "أن العلوم الكونية والفنون العصرية النافعة داخلة ضمن علوم الدين وأعماله وليست منافية لها"، وذلك ردًا على خرافات الصوفية أو جهل بعض المتعصبة ضد المخترعات الحديثة والعلوم الجديدة، وهي قضية عانت منها أمتنا قبل عقود بسبب الضعف العلمي والجهل وسيطرة التصوف الأعمى على الأمة.

وهذا الفهم الشامل للعلم ودوره هو الذي أدركه المصلحون دوما ومنه انطلقوا في مشاريعهم الإصلاحية الكبري، ومن الأمثلة العصرية لهذا الفهم الواسع لدور العلم الكلمة العظيمة لمحرر الجزائر العلامة عبد الحميد بن باديس حين بيّن منهجه في تحرير الجزائر فقال: "أنا أحارب الاستعمار بالعلم لأني أعلّم وأهذّب، فمتى انتشر التعليم والتهذيب في أرضٍ، أجدبت على الاستعمار، وشعر في النهاية بسوء المصير".

واليوم نحن بحاجة من جديد لإعادة ترسيخ مفهوم العلم الشامل في واقعنا -أفرادا وجماعات ومؤسسات ومجتمعا ودولة- حتى نحوز الفلاح، وهذا لا يكون إلا بضبط منهجية العلم وأصول المعرفة أولاً، والشمولية والتكامل بين العلوم ثانيًا، وتأسيس التفكير العلمي والموضوعي ثالثًا، والعمل بالعلم وعدم الاكتفاء بالشعارات رابعًا، وهو ما سنستعرضه في المقالات التالية.