شكل جديد من فتنة داعش

الرابط المختصر
Image
شكل جديد من فتنة داعش

روى البخاري من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"، قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: "القتل، القتل".
وكثير مما في هذا الحديث ينطبق على واقعنا اليوم، فالوقت أصبح يمضي ولا نحسّ به، وانتشر الجهل بالدين والدنيا في بلاد الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأصبح البخل سمة ظاهرة، فكمّ القضايا والشكاوى بخصوص بخل الأب أو الزوج في النفقة على من يعولان، أو بخل وعقوق الأولاد تجاه والديهم يزيد ولا ينقص، وكم من مشاريع خيرية توقفت أو لم تبدأ بسبب تقاعس القادرين عن تمويلها ودعمها.
أما الفتن فلا يكاد يمر يوم في أيامنا هذه إلا وتمر فتنة جديدة، إما بدعوى باطلة يطلقها دعيٌّ في العلم عبر الصحف أو الفضائيات، أو تجد سلوكاً باطلاً ينتصب وقحاً في قارعة الطريق، أو تسمع بفاضل قد زلت قدمه فتبع شبهة مزخرفة، أو شاب/ شابة تاها في دوامة المعاصي والفجور والإلحاد، فضلاً عما يقوم به الإعلام من تضليل وترويج للأكاذيب على صعيد الأخبار أو تمجيد لأيدولوجيات منحرفة وسلوكيات سيئة، فيتولد من ذلك كله فتن وبلاء قل من ينجو منهما والله المستعان.
ومن الفتن التي وقع فيها بعض الخيرين فتنة داعش، فأهل الخير والصلاح قد يحذَر من فتن الشهوة والضلال الصريح، لكنه لا يتحفظ من فتن الشبهات المضلة التي تتستر بشعارات إسلامية!
يقول الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) عن سبب افتتان بعض أهل الخير بالشبهات: "وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة".
وما سميت الشبهة شبهة إلا لأنها تشبه الحق في باطلها، فينخدع فيها البعض ويقبلها، وهذا سبب قبول داعش عند كثير من الخيرين، وهذا العامل ساقط في تنظيرات الباحثين عن سر تأثير داعش وجاذبيتها، وهم يقتصرون على عوامل مادية كالقمع والديكتاتورية والطائفية، وهي عوامل لها تأثير خاصة على الشرائح غير المتدينة والباحثة عن مصادر للقوة والمال، ولكنها ليست كل شيء!
والفتنة بداعش لا تقتصر على تأييدها سواء مع الهجرة لها أو بدونها، بل هناك أشكال أخرى من الفتنة بداعش منها صورة اصطدمتُ بها في الأسبوع الماضي ولم أنتبه لها من قبل.
فالسائد أن تيار القاعدة وأخواتها والمتعاطفين معهم انقسموا لمعسكرين، إما مع داعش وخليفتها البغدادي، وإما بقوا على ولائهم للقاعدة بزعامة الظواهري ودعم جبهة النصرة بزعامة الجولاني في سوريا.
لكن صدمني وجود شريحة جديدة لا أدرى كم تمثل، لكن نوعية من مثلها هو ما أدهشني، فأخ فاضل يحمل شهادة الدكتوراه في الحديث الشريف ومحسوب على ما يسميه الباحثون الإعلاميون (السلفية العلمية أو الحركية)، أخذ يمجّد في شاب من جبهة النصرة ويثني عليه ثناءً عاطراً، ثم انعطف في حديثه ليهاجم من يطعن في المجاهدين والشهداء ويروّج عنهم الأباطيل والشبهات، وأنهم ليسوا خوارج ولا إرهابيين، وأن من يفعل ذلك هم إنما يردد كلام الفرق الضالة كالمرجئة، وكان واضحاً من كلامه أنه يدافع عن الدواعش في هذه الانعطافة!
فاستغربتُ تناقضه كيف يثني على رجل من جبهة النصرة ويدافع عن الدواعش، والصراع بين جبهة النصرة والدواعش معلوم مكشوف معلن، وهو صراع وجود وليس صراعا على نفوذ، فجبهة النصرة تعلن أن داعش خوارج، وداعش ترى كفر النصرة بنبذها بيعة البغدادي وصراعها معهم!
فقلت له: يا أخي أنت هاجمتَ من يلمزون المجاهدين والشهداء، فهلاّ هاجمت أيضاً من يقتلون المجاهدين ويذبحونهم كداعش، حتى تتوازن في طرحك؟
وقلت له: وقد أقر بجرائم داعش بحق المجاهدين والشهداء: المقدسي والفلسطيني والمحيسني الذين هم من منظرو وداعمو جبهة النصرة.
فكان جوابه: يقال هذا، والله أعلم بالحال، ونحن بعيدون عن الساحة!
فقلت له: أنت رجل حديث وهذا يخالف منهجية أهل الحديث، ثم أنت بعيد أيضاً فلِم قبلت رد التهمة من بعيد ولم تقبل التهمة؟
والعجيب أن الشاب الذي كان يمجده من جبهة النصرة هو نفسه يذم داعش ويحذر منها ويسمها بالخوارج وكلاب أهل النار.
فهذه حالة عجيبة تجمع بين حب النصرة وداعش، حالة فريدة تريد جمع النقيضين، فهل افتتن هذا الدكتور الذي أقدره وأعدّه من العقلاء بداعش، بسبب جهله بحقيقة داعش أو لهوى عنده لداعش أو للجهاد أو لخلل في التفكير؟
بحثتُ هذه التساؤلات مع أحد الأصدقاء الذي سمع مقالة الدكتور، وكان رأيي أن الدكتور وكأنه يعيد ما عرف في تاريخنا بالقصاصين، الذين كانوا يخترعون القصص والأحاديث التي تحثّ على الطاعات وتحذر من المعاصي ويَكذبونها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون في تبرير ذلك: نحن لا نكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، بل نكذب له!!
فكأن دكتورنا الفاضل يعيد نفس السلوك تقريباً، بالكذب على نفسه وأمته أن ما يقال عن المجاهدين هراء، وأنهم يد واحدة!
والعجيب أن لا داعش ولا النصرة يقبلان بهذا المنطق الأعوج، فداعش تأبى أن تصنف كفصيل إسلامي، بل هي خلافة الإسلام التي من ينكرها ينكر تحكيم الشريعة ويكفر بذلك، وهي مغالطة مفضوحة!
ولا جبهة النصرة تقبل من دكتورنا اعتبار داعش إخوة لهم – إلا فصيل إخوة المنهج في النصرة، والذين هم دواعش نائمون لوقت الحاجة- بل هم أعداؤهم، ولو ظفر الدواعش بالجولاني لعلهم يجرمون به بطريقة لم يسبق لهم فعلها مع أحد.
أضاف صديقي - وهو من الباحثين الشبان النابهين– قد تكون القضية خشية هؤلاء على صورة الجهاد كي لا تتشوه أمام العامة إذا نشرنا فضائح داعش! وقد ينفضّ الناس عن تأييد الجهاد والمجاهدين بذلك، فمصلحة الجهاد عندهم أن نجمّل الأخطاء ونحاول التعمية عليها ونخفف من تأثير ذلك على العامة.
ومسلك مجاملة الأخطاء مسلك مخالف لمنهج القرآن والسنة في معالجة ما يقع في الجهاد من أخطاء، إذ منهج القرآن والسنة الإعتراف بالخطاء الحاصل ومعالجة أثاره بشكل علني وشفاف، بل أصبحت قصة تلك الأخطاء قرآن يتلى ليوم القيامة.
وقد تسبب هذا المسلك المجامل بكوارث عديدة منها مجاملة قيادة القاعدة ايام بن لان لأخطاء تنظيم دولة الإسلام بالعراق حتى تعاظمت هذه الأخطاء لخطايا وبلايا لم تسلم منها القاعدة نفسها!
وأياً ما كان الحال، فإن محاولة البعض من الفضلاء مسك العصا من الوسط مع داعش، محاولة خطيرة وتعيد تكرار كثير من الكوارث في مسيرة العمل الإسلامي، فكم جنت علينا هذه الحلول الوسطية الصبيانية، وهي تكرار لجريمة من طالبونا بالتجاوز عن كل طائفية جمهورية إيران الإسلامية بحجة الوحدة الإسلامية، حتى أراقت هذه الوحدة الإسلامية دماء مئات الآلاف من الأبرياء في إيران والعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن والسعودية والكويت، وكادت تنجح في احتلال إيران وأذرعها للعاصمة العربية الرابعة صنعاء بعد بغداد ودمشق وبيروت.
عموماً لا تزال داعش تنجح في كسب أنصار جدد بفضل فشل استراتيجيات مكافحة التطرف العلمانية لأنها تحرث في البحر، سواء بالتركيز على إلهاء الشباب بالتوافه باسم الفن والثقافة، أو محاولات تحريف الإسلام تحت شعارات تجديد الخطاب الإسلامي وتمدينه، فهذه المحاولات ستبقى معلقة في الهواء، ولنا في دواعش تونس عبرة، فبرغم سياسة "تجفيف المنابع" العلمانية المتطرفة إلا أن الفراغ الديني الناتج عنها أفرز مشاركة تونسية في داعش تعد المشاركة الأكبر عربياً!!
كما أن الجهود الإسلامية الشعبية من قبل الحركات الإسلامية تعد جهودا هامشية في سلم كثير من الجماعات الإسلامية مع الأسف، أما جهود العلماء والدعاة فلا تزال تتسم بالفردية والجزئية لقلة الإمكانات وعدم وجود مؤسسات قوية وقادرة على محاربة الغلو والتطرف اللذين سيكونان الأداة الأكثر نجاحاً في تشويه الإسلام وعرقلة العمل والتفوق الإسلامي.
وهذه الحال المائلة هي من أسباب تمدد فتنة داعش وبقائها، فهل نعقل؟
 
      

تنة داعش ت