صحيح البخاري عبقرية التأليف لبيان عظمة السنة النبوية (1-2)

الرابط المختصر
Image
صحيح البخاري عبقرية التأليف لبيان عظمة السنة النبوية (1-2)

يعدّ الإمام البخاري من الشخصيات المحورية في تاريخ الإسلام والبشرية، ولا تزال جهوده العلمية والفقهية والفكرية – لليوم- تشغل الدنيا كلها، فالمحبّون له لا يتوقفون عن قراءة كتبه والاستفادة منها والسير على تعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- التي جمعها لنا، وبالمقابل فإن خصوم الإسلام يعرفون قدر البخاري ومنهجه وفكره ولذلك يتكالبون على الطعن فيه وتشويه سيرته ومسيرته، وليس لهم من عدّة في ذلك إلا الكذب والافتراء عليه أو التحريف والتزوير، وهم في ذلك يكرّرون شبهات ساقطة وقديمة جداً بثها حاقدون على الإسلام من أديان أخرى ثم لمّعها المستشرقون، واليوم يلوكها منظرو العلمانية والحداثة في مؤلفاتهم، ويروّجها نيابة عنهم أبواق غبية عبر وسائل الإعلام والفضائيات.
البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256هـ)، وهو أحد كبار حفّاظ الحديث النبوي حتى لقب بأمير المؤمنين في الحديث، وهو فقيه معتبر، وله مؤلفات عدة من أهمها كتاب "الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه"، المشهور باسم صحيح البخاري، والذي يعد أصح الكتب بعد القرآن الكريم.
وقد تلقى السنة النبوية والعلم عن ألْف شيخ خلال رحلته الواسعة في طلب العلم، وتحصل له جمع 600 ألف سند لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم (الحديث الواحد قد يكون له عشرات الأسانيد، ويعد كل إسناد حديثا عند علماء الحديث)، وقد تتلمذ عليه كثير من علماء الحديث كمسلم بن الحجاج وابن خزيمة والترمذي، وهو أول من ألّف كتاباً في تاريخ رجال الحديث، وأول من ألّف كتاباً في حصر الأحاديث الصحيحة فقط.
هذه المؤهلات العظيمة لا تتوفر إلا لشخصية مبدعة وعبقرية، وقد بيّن تفاصيل ذلك الأستاذ الدكتور علي العجين في كتابه المتميز "الشرح التربوي لكتاب العلم من الجامع الصحيح للإمام البخاري" والصادر عن دار الحامد في عمان، والذي تكرم بإهدائي نسخة منه، والكتاب ثمرة خبرة علمية وخبرة عملية في دراسة وتدريس شخصية البخاري وكتابه لما يزيد عن ربع قرن، تمكن فيها أ.د. العجين من تقديم دراسات متميزة حول البخاري تتمثل في:
1- الإمام البخاري وكتابه "الجامع الصحيح" من منظور علم الإبداع.
2- الفكر التربوي عند الإمام البخاري.
3- نظرية التناسب والفكر المنظومي عند الإمام البخاري.
4- شرح أحاديث كتاب العلم من صحيح البخاري، وركز فيه على البعد التربوي.
هذه هي فصول الكتاب المتميز، والتي كشف فيها أ.د. العجين عن أن البخاري كان شخصاً موهوباً وعبقرياً ولقي اهتماما ودعما من أهله ومعلّميه وزملائه، وعزّز ذلك بجدّه واجتهاده وبذله نفسه للعلم والتعلم والتعليم فوصل لهذه المنزلة العالية الرفيعة، ولخص د. العجين إبداع عبقرية البخاري في مربع يتكون من: سمات شخصية، معلم موجه، بيئة إيجابية، توفيق إلهي.
وقد مزج د. العجين العلوم الحديثة حول الإبداع والموهبة والتفكير والتعليم مع شخصية البخاري كنموذج يكشف عنها، ويربط حاضرنا بماضينا، وأصالتنا بمعاصرتنا، وذلك في سياق مشروع أ. د. العجين "التكامل المعرفي بين السنة النبوية والعلوم العصرية" والتي جعل لها شعاراً هو "السنة منهج حياة الأمة"، ومن خلال تطبيق سمات الموهوبين ونظريات الإبداع على سيرة ومسار البخاري كما فعل د. العجين تتضح الحاجة الماسّة اليوم لربط ناشئتنا بعظمائنا وتعريفهم بجهودهم الكبيرة بطرق عصرية ووسائل جذابة، وتتضح الحاجة لضرورة رعاية الموهوبين من ناشئتنا ودعمهم حتى يبدعوا وينتجوا ويساهموا في إعمار الكون وقيادته نحو الحق والسعادة والرخاء كما فعل أسلافنا من قبل.
أما بخصوص الإبداع والعبقرية في تأليف البخاري لصحيحه فهي تتمثل في الجوانب التالية:
أن البخاري قام بذلك بعد أن استجمع القدرات العلمية والمعرفية اللازمة، فقد باشر بجمع الصحيح بعد أن أتمّ حفظ القرآن الكريم وكثيرا من السنة النبوية والعلوم الضرورية من اللغة والفقه وغيرهما، وبعد أن ألّف كتابه العظيم في تاريخ الرجال.
كان تأليف كتب الحديث في زمن البخاري معروفاً ولكنه من عبقريته وموهبته وتوفيق الله له اقتنص فكرة طُرحت في أحد الدروس، قال البخاري: "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصراً لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب"، فالبخاري طوّر الفكرة وجعلها جمع السنن الصحيحة فحسب، فكانت إبداعا وعبقرية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً لليوم.
وجعل البخاري لنفسه معياراً علمياً دقيقاً في انتقاء الأحاديث لهذا الكتاب لم يستطع أحد غيره من الالتزام به، ومن ثم بقي يطبق هذا المنهج لمدة 16 سنة برغم أنه يحفظ الأحاديث أصلاً، ولكنه طوّر الفكرة لتصبح جمع الأحاديث الصحيحة على أبواب الفقه، وهذا يحتاج إلى حسن فهم وفقه وليس حفظا فقط، وهنا تتبيّن عبقرية البخاري وإبداعه وأنه ليس محصوراً في دقة الحفظ، بل في عمق الفهم والفقه أيضاً، بل هو الأصل.
هذا المعيار العلمي الدقيق والعالي جعل البخاري محدودا في الأخذ من محيط الأحاديث والروايات والأسانيد التي يحفظها والتي تبلغ 600 ألف، وبحسب الإمام ابن حجر فإن عدد أحاديث صحيح البخاري خالصة بدون تكرار يبلغ (2602) ، ومع الأحاديث المعلقة المرفوعة وهي (159) حديثا يصبح المجموع (2761) حديثًا، ومع المكرر من دون المعلقات والمتابعات (7397) حديثًا، وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) حديثًا فقط!!
وهنا تظهر عبقرية الانتقاء لدى البخاري حيث كان يختار أصحّ الأسانيد وأعلاها والتي تجمع بين أعلى درجات التوثيق في الرواة والتصريح باللقاء بين الرواة، وتظهر عبقرية البخاري في تكرر الأحاديث لأن الحديث الواحد يتعلق بأكثر من باب فقهي ولكن غالباً يكون فيها فائدة جديدة إما في المتن بزيادة فائدة أو لفظة أو في السند فيرويه من طريق آخر ليشير لهذه الفائدة، وهو ما تكفل ببيانه شرّاح صحيح البخاري وخاصة ابن حجر في شرحة "فتح الباري" حيث فصّل كثيراً في بيان هذه الفوائد لتكرار الحديث.
ومن مظاهر عبقرية البخاري في تأليف كتابه "الجامع الصحيح" كما بيّن د. العجين إبداع تقسيمه وترتيبه، حيث جعله في 97 كتابا، وكل كتاب فيه عدة أبواب، مما يدل على سعة فقهه وتقسيمه للسنة النبوية لإبراز عظمتها وكنوزها.
ولكن اختيار هذه الكتب وتقسيمها وترتيبها لم يكن كيفا اتفق، بل سار فيه على منهج علمي صارم بحيث يكون تسلسل ترتيب الكتب له مغزى ومعنى وحكمة، حيث بدأ البخاري بكتاب بدء الوحي ثم كتاب الإيمان ثم كتاب العلم حتى ختم بكتاب التوحيد، وهو ما سمّاه د. العجين "نظرية التناسب في صحيح البخاري"، وقد أشار لهذا العلماء السابقون حيث لخص ابن حجر كلام الإمام البلقيني حول ترتيب صحيح البخاري فقال: "وقدّمه -أي كتاب بدء الوحي- لأنه منبع الخيرات ... فذكر بعده كتاب الإيمان والعلوم... وكان الإيمان أشرف العلوم فعقبه بكتاب العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة فقال كتاب الطهارة..."، وهكذا يتبين لنا وجود ترتيب وتناسب في سرد الأبواب.
ولكن ينبهنا د. العجين إلى أن هذا الإبداع في الترتيب لا يقتصر على الأبواب، بل هناك إبداع أيضا وعبقرية في ترتيب وتناسب كل باب من أبواب كتب البخاري! ثم هناك تناسب وترتيب بديع في سرد أحاديث الباب الواحد! ثم هناك تناسب وتنسيق بديع في اختيار الحديث الأخير في الباب، وأن يرتبط آخر حديث في الكتاب وأول حديث في الكتاب الذي يليه!
وهناك تناسب بين أول حديث بدأ به البخاري صحيحه وآخر حديث ختم به صحيحه! وهناك تناسب بديع في اختيار عناوين الأبواب والأحاديث الواردة فيه! وهو ما سنقف معه قليلاً.
تجلّت عبقريته البخاري في فقه وفهم السنة النبوية في عناوين الأبواب، والتي أودع فيها فقهاً غزيراً وفهماً عميقاً حدا بعدد من العلماء لتأليف كتب كاملة لشرح فقه البخاري في عناوين وتراجم الأبواب منها: كتاب المتواري على تراجم البخاري لناصر الدين أحمد بن المنير، وكتاب فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة لمحمد بن منصور السلجماسي، وكتاب مناسبات تراجم البخاري لبدر الدين بن جماعة الشافعي.
وقد أبدع البخاري في هذه التراجم من خلال ربط القرآن الكريم بالسنة النبوية حيث أحياناً يكون العنوان آية قرآنية أو جزءا منها، وأحيانا يكون العنوان حديثا معلقا، لأنه لم يستكمل شروطه في الصحة فوسع دائرة الاستشهاد ولم يُخل بشرطه المعياري، وكذلك قد يتضمن العنوان أو الترجمة لقول الصحابة مما وسع دائرة اختيار البخاري في الفهم والفقه مع الحِفاظ على شرطه في قوة الصحة، وهذا كله من إبداع التأليف والجمع الذي ربط قوة الحفظ واتساعه مع قوة الفهم وشموله.
هذه المنهجية العبقرية في تأليف البخاري لصحيحه لخصها د. العجين في مثلث: اشتراط أعلى درجات الصحة، الاستنباط الدقيق من الأحاديث، التناسب البديع في ترتيب الكتب والأبواب والأحاديث.
وهذه المنهجية الصارمة هي التي جعلت البخاري يستغرق 16 سنة في جمع وترتيب صحيحه، بل كان البخاري يستيقظ من النوم فيوقد السراج ويكتب الفائدة التي تمرّ بخاطره ثم ينام عدة مرات تكاد تبلغ 20 مرة في الليلة!
لكن النتيجة كانت أن البخاري بعد أن أنجز كتابه هذا وعرضه على كبار العلماء والمحدثين كالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم فارتضوه وشهدوا له بالصحة، وتقبلته من بعدهم الأمة بالرضى والقبول إذ سمة العبقرية والإبداع تقبّل البيئة المجتمعية لها، فقرأ البخاري صحيحه على 90 ألفا من طلبة العلم في حياته، وبعد مماته انتفع بكتابه هذا مئات الملايين، وهذا ما يغيظ الأعداء ويجعل البخاري في مركز هجومهم على الإسلام والسنة النبوية.