صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه

الرابط المختصر
Image
صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه

~~هذا الكتاب القيّم في موضوعه ومادته هو من تأليف المؤرخ الكبير الأستاذ شاكر مصطفى، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1997م، وبين يدي الطبعة الثالثة التي صدرت عن دار القلم الدمشقية، سنة 2014م، في 424 صفحة من القطع الكبير.  ولهذا الكتاب قصة، من المهم معرفتها، وقد أوردها د. محمد مؤنس عوض في كتابه "صلاح الدين الأيوبي بين التاريخ والأسطورة"، فقال في صفحة 30: "وفي عام 1995م فوجئ المؤرخون العرب بدراسة أعدها المؤرخ اللبناني حسن الأمين بعنوان "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"، كما نشر مقالة في مجلة العربي الكويتية واسعة الانتشار عدد 442 بعنوان "صلاح الدين الأيوبي نظرة مختلفة". وفي الكتاب وكذلك المقالة نجد مؤرخاً يهاجم السلطان صلاح الدين الأيوبي على نحو لم يحدث منذ ما زاد على ثمانية قرون؛ ولا مراء في أن الهجوم كان هجوماً مندفعاً لا يتسم بالموضوعية لم نجده لدى أي مؤرخ عربي، بل وأوربي، حيث اتهمه بالخيانة وذكر أنه يستوجب القتل!!! والدراسة المذكورة أكاديمية الظاهر غير موضوعية في الباطن، وتحقق أهدافاً لا تخفى على أحد، وفيها اعتساف الأحكام، والفكرة المسبقة المفروضة فرضاً على الآخرين وكأن صاحبها له مع صلاح الدين ثأر شخصي بلا مبرر منطقي!!! وقد افتقد الكتاب القدرة على إقناع القارئ المتخصص الخبير خاصة أن المؤلف غير متخصص في عصر الحروب الصليبية. ومن الطريف أن أكبر مؤرخ صليبي وهو وليم الصوري امتدح أحياناً صلاح الدين الأيوبي وكذلك كافة كُتاب مادة صلاح الدين في جميع دوائر المعارف في العالم أجمع بلا استثناء وهم من المسيحيين، واليهود، ونجد مؤرخاً مسلماً عربياً يتخذ ذلك الموقف الذي سيحسب على العرب والمسلمين بطبيعة الحال. ومع ذلك، فإن فائدة الكتاب المذكور أنه أيقظ الباحثين لإعادة الاهتمام بالسلطان الأيوبي المجاهد البارز فظهرت مؤلفات لتحقق هذا الهدف. ولم يتأخر الرد طويلاً على حسن الأمين؛ إذ أصدر المؤرخ السوري الراحل الكبير شاكر مصطفى في بيروت عام 1997م، أي بعد عامين فقط، دراسة بعنوان: "صلاح الدين الفارس المجاهد، والملك الزاهد المفترى عليه"، وقد أهداه إلى كل من وصمهم المفتري على صلاح الدين: - إلى أبي شامة، الذي وصفه بـ (البذيء)!! - إلى ابن كثير الذي وصفه بـ (السفيه)!! - إلى محمد كرد علي الذي وصفه بـ (صاحب الأباطيل)!! - وإلى مجموعة المؤرخين الزملاء الذين رماهم بالجهل المطبق والسفاهة، والتحامل، والاجترار، والعمى، والكذب على الحق، وتزييف التاريخ، وبكعوب الأحذية!! - وأخيراً إلى صلاح الدين نفسه، والذي وصفه بالخداع والاستسلام للصليبيين والتآمر معهم، وبأنه يستحق القتل!! (حرصت على إيراد مثل تلك السطور في المتن حتى يتضح للقارئ طبيعة العبارات التي استعملت من جانب مؤلف "صلاح الدين بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"!!!). والكتاب رد مفحم على المؤلف سالف الذكر، وتمكن مؤلفه من هدم أساس فكرة د. حسن الأمين باقتدار مؤرخ خبير. ومع ذلك فإن من المآخذ التي تؤخذ على الكتاب عدم اعتماد مؤلفه على مصادر صليبية أو مراجع أجنبية، ولا يقلل هذا من الجهد المبذول في الكتاب الذي تمكن من خلاله مؤلفه من تحقيق هدفه باقتدار أستاذ خبير". أ.هـ إذاً هذا الكتاب المهم هو رد على افتراءات حسن الأمين، نجل المرجع الشيعي اللبناني محسن الأمين، الذي أكمل موسوعة والده (أعيان الشيعة) من حرف السين حتى الياء ثم استدرك عليها 10 أجزاء! ثم ألّف موسوعة دائرة المعارف الشيعية في 26 مجلدا، فنحن أمام شخص يفترض فيه المعرفة والاطلاع، ولكن كتابه عن صلاح الدين كان غير موضوعي، فهل هذا بسبب نقص المعرفة والاطلاع، أم بسبب البعد العقائدي الشيعي المعادي لصلاح الدين، هادم خلافة الفاطميين الشيعة، أم بسبب الهوى وقلة الدين اللذين كان يتصف بهما؟ بغضّ النظر عن الجواب الصحيح عن دافع الأمين للافتراء على صلاح الدين، إلا أن هذه الافتراءات حفزّت مؤرخنا الكبير لإبطال الافتراءات بالمنطق والمعرفة والمعلومة الصحيحة، وذلك حين استعرض خلفيات الوضع السياسي في العالم آنذاك، ثم استعرض مسيرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، وكيف تطور من التداعي للجهاد بشكل فردي من الأمراء بداية، ثم مزج الجهاد بالدعوة للوحدة بين الأمراء على يد عماد الدين زنكي وولده نور الدين زنكي، ثم الانتقال بعد تحقيق الوحدة والجهاد إلى تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين. ثم استعرض شخصية صلاح الدين والتغيرات التي طرأت عليها، والمراحل التي مر بها صلاح الدين، فترة التأسيس، المرحلة المصرية، المرحلة الشامية. والكتاب يكشف عن جوانب غير مشهورة من جهود صلاح الدين، فصلاح الدين اشتهر بمعركة حطين وتحرير بيت المقدس، لكن هدم الخلافة الفاطمية كان حجر الأساس في تحرير بيت المقدس، وقد استغرق جهدا وزمنا كبيرين في تغيير قناعات الناس والقضاء على الجهاز الدعائي للفاطميين، والقضاء على عدة ثورات فاطمية مضادة ضده، ولعل عدم إدراك نور الدين لعظم صعوبة هدم خلافة الفاطميين كان وراء تذمره من بطء صلاح الدين في دعم الجهاد الشامي ضد الصليبيين. ثم بيّن جهود صلاح الدين في لملمة شعث الشام بعد وفاة نور الدين، وهو ما يؤكد مركزية وصعوبة توحيد الجبهة الداخلية والتي لا تتم إلا بنشر العلم الصحيح بين الجماهير فتتحد أفكارهم وأمانيهم، ومداراة الوجهاء والكبراء، والصبر عليهم وعدم استعجال الصدام وسفك الدماء مع الأهل والجيران. ثم فصل وشرح جوانب دهاء وذكاء صلاح الدين في مناورة الصليبيين بالسياسة والقتال حتى قضى عليهم في حطين، ثم شرع في بناء بيت المقدس على أسس الحق والعدل، والتي كان يتمثل فيها عظمة ورحمة الشريعة الإسلامية، برغم أنه في موقع القوة من جهة، ويمكن له من جهة أخرى من الثأر من الأعداء الذين ولغوا في دماء المسلمين ظلماً وعدواناً حتى سارت خيولهم في سيول من دماء ألوف المسلمين. وقد أفرد فصولا خاصة لجيش صلاح الدين، وعلاقته بالخلافة العباسية، ومالية صلاح الدين، والعمران الصلاحي، مما يشكل صورة متكاملة لجهاد صلاح الدين، ويفكك حالة الوعي الزائف عن الكثيرين بجهاد صلاح الدين، والخروج من دائرة الشعارات الممجدة لصلاح الدين، لدائرة التعلم واكتساب الخبرة من جهاد صلاح الدين. ومما يتميز به الكتاب أنه كان يتعامل مع صلاح الدين على أنه بشر يصيب ويخطئ، وليس قائداً أسطورياً لا أخطاء له أو نقائص، بل عرض بعض أخطائه وهزائمه والدروس المستفادة من ذلك. ختاماً لعل تجربة صلاح الدين تشابه واقعنا من جوانب عديدة، فالأمة تواجه عدوانا خارجيا صليبيا / إسرائيليا وله دعم دائم من الخارج، وفي نفس الوقت هناك عدوان شيعي داخلى فاطمي / إيراني يعرقل الجهاد ضد العدو الخارجي، وتسود المسلمين حالة من الجهل بالدين والبعد عن التزام أحكامه بين الناس، وتفرق وتشرذم وصراع على مستوى الأمراء والسلاطين. في هذا الوضع والبيئة تحرك صلاح الدين كامتداد لجهود الكثير من العلماء والأمراء على امتداد 100 عام، فاستفاد من كل الجهود السابقة ولم يفرط بأي مكسب تحقق ولو من خصومه، وتجنب الصدام الداخلي ما أمكن ذلك، وكان واعياً أن المرتكز الحقيقي في الجهاد والتحرير نشر العلم الشرعي والعدل بين الرعية وعمران البلاد ثم يأتي الإتقان في القتال. ولا تزال سيرة صلاح الدين غير مفعلة في وعي أبنائها الساعين للنهضة وفيها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة التي تنتظر من يكشف عنها، ليختصر الزمن ويوفر الجهود ويتجنب المزالق.