طالبان بين الخلل المعرفي والتعاطي العاطفي

الرابط المختصر
Image

تعود حركة طالبان اليوم لواجهة الأخبار، وتتصدر صور قادتها وأعضائها معظم الشاشات، وتنشغل وسائط التواصل الاجتماعي بأخبارها وتعليقات وتحليلات حولها، وهي متنوعة بين مؤيد مطلق أو على النقيض تماما كخصم شرس.
وهذا الحال من الاستقطاب الحاد لا يقتصر على جمهور الإسلاميين الملتزمين والعلمانيين، بل هو أيضا في داخل الصف الإسلامي نفسه، فهناك من أصبح محاميا لطالبان لا يقبل فيها نقدا ولو كان حقا، وهناك من يواصل اجترار مواقف الغلو القديمة المناقضة لطالبان والتي تصل لدرجة تكفير طالبان!
والعجيب أن الطرفين -المادح والذام- يتجاوزان على كثير من الحقائق والمواقف التي مرت بها طالبان أو الأسباب التي دعتها للتشكل والظهور وكيفية حدوث ذلك ولماذا لم تستمر إمارتها؟ وهي الحقائق والمواقف التي لا تصب في صالح غالب المادحين أو الذامين، وهي الحقائق التي لو تم استحضارها لتبين مقدار انتهازية كثير من المواقف الآنية، ومن جهة أخرى لو توفرت لدى الشباب بوصفها من التجارب والخبرات اللازمة لأمكن تجنب كثير من التجارب الفاشلة في عالمنا العربي والإسلامي ولكان لدينا رصيد من الخبرة والوعي يؤهلنا للبحث عن مسارات أخرى أنفع وأجدى بدلا من تكرار الأخطاء والتجارب الفاشلة بسبب الخلل المعرفي والتعاطي العاطفي الأعمى.
وسأقتصر في هذا المقام على التذكير بالحقائق والمواقف اللازمة لتوعية الشباب المسلم الملتزم ممن لم يدرك تلك المرحلة لحداثة سنه أو لعدم المتابعة لتفاصيلها.
١- كثير ممن يشيد بطالبان اليوم من شباب الإخوان المسلمين والشباب الجهادي ويفرح بهزيمة أمريكا يغفل عن سبب نشوء وظهور حركة طالبان، وهو السبب الذي يحرج كثيرا من قادة الإخوان والحركات الجهادية، ويحاول البعض أن يقصر الحديث على جرائم أمريكا ضد طالبان وأفغانستان فقط كما فعل إياد القنيبي في تعليقه على الحدث، أو بيان جماعة الإخوان بخصوص دخول طالبان لكابول حيث تجاهل بيان الإخوان ذكر طالبان تماما! هل كان ذلك للتغطية على فشلهم المتكرر وسوء تقديرهم للأمور وعدم تعلّمهم من تجاربهم؟
إن ظهور وتشكل طالبان كان عقب الفوضى والفساد والجرائم التي تسببت بها حكومة الحركات الجهادية الأفغانية، وبعضها ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة سياف وحكمتيار ورباني عقب سيطرتهم على كابول وانسحاب الروس.
فطيلة مسيرة الجهاد الأفغاني كان الخصام والخلاف والقتال حاضرا بين الفصائل المجاهدة ورغم المحاولات المتكررة لجمع صفهم وتوحيد جهادهم ومنها جمعهم في جوف الكعبة المشرفة برعاية الشيخ ابن باز إلا أنهم فشلوا في التوحد والتعاون، ولما انتصروا تقاتلوا واختلفوا وتحالف بعضهم مع عملاء مشهورين كالجنرال رشيد دوستم، فانتشر القتل والعدوان والسرقة والنهب والاغتصاب برعاية قادة الجهاد!
عندها قام الطلبة من المجاهدين السابقين بالتجمع من جديد بزعامة الملا محمد عمر كما يروي ذلك الملا عبد السلام ضعيف في كتابه "حياتي مع طالبان" وهو الكتاب الذي لم ينتشر ويروي تاريخ طالبان بشكل أقدم من ظهورها في سنة ١٩٩٤ بل ربما تعود لسنة ١٩٨٩، المهم أن طالبان هي حركة مجاهدة لفساد المجاهدين، ومنهم الإخوان المسلمون، وقد كتب محمد سرور كتابا صغيرا عن ذلك بعنوان "قل هو من عند أنفسكم"، هذا الفساد الذي لا يزال يتكرر كما رأينا في فصائل مقاومة سوريا أو انشقاقات وخلافات إخوان مصر في تركيا.
والفساد في تلك المرحلة لم يقتصر على المجاهدين الأفغان بل شمل حتى فصائل الجهاد العربية، فها هما عبدالله عزام وأحمد شاه مسعود يتم اغتيالهما، والمتهم بذلك تنظيم القاعدة، وتبين أن أحمد شاه مسعود والشيخ جميل الرحمن تم اغتيالهما على يد شباب من المجاهدين العرب! في بروفة مبكرة من اغتيالات داعش في حاضرنا.
وهذا يؤكد على ضرورة العناية الفائقة بحسن تربية الشباب المسلم وتعليمهم وتوعيتهم وتوسيع خبرتهم حتى لا يتورطوا في مثل هذه الجماعات القاصرة أو الأفعال المجرمة، وأن مراجعة وتطوير الحالة الداخلية للحركات الإسلامية السياسية والعسكرية هو من الأولوية بمكان حيث تشيع حاليا حالة من الحزبية المقيتة والمنافية لكثير من مقاصد الشريعة في داخل هذه الحركات التي ترفع شعار نصرة الشريعة.
٢- وكما يجهل البعض سبب نشأة طالبان، فهم غالبا يجهلون سبب شنّ أمريكا الحرب على طالبان، وذلك أن طالبان حين قامت وطهرت أفغانستان من فساد حكومة المجاهدين! تعاملت أمريكا بإيجابية معها وكذلك عدد من الدول العربية على رأسها باكستان والسعودية والإمارات وكان لطالبان سفارة فيهم.
وقد ذكر تفاصيل تلك العلاقة الملا عبد السلام سفير طالبان في باكستان، وبيّن أن عمليات تنظيم القاعدة خارج أفغانستان تمت دون موافقة طالبان، وبخلاف الاتفاق والبيعة التي قدمها أسامة بن لادن للملا عمر مما تسبب في مطالبة أمريكا لطالبان بتسليم بن لادن لها، وقد برر بن لادن لأتباعه تجاوزه لأمر الملا عمر بأن أمره نافذ عليه في أفغانستان، بينما خارجها فله حرية الحركة!
لكن الملا عمر رفص تسليم بن لادن وطالب أمريكا بتقديم أدلة على تورط بن لادن في عمليات القتل والتفجير وأنه سيحاكمه عنده أو في محكمة إسلامية، وبقي السجال مفتوحا مع أمريكا وتوترت العلاقات بينهما، ثم أخبر السفير الأمريكي بباكستان الملا عبد السلام بأن هناك معلومات عن تمهيد لعملية كبيرة ضد أمريكا تدبر من أفغانستان وضرورة العمل على وقف ذلك، ونقل الملا عبد السلام تلك المعلومات لقيادة الإمارة في قندهار، وبعد 23 ساعة جاء الرد "ليس لدى أفغانستان نية إيذاء الولايات المتحدة، ولن نسمح باستخدام الأرض الأفغانية للتخطيط أو التدريب على أي شيء من هذا القبيل"، حتى وقعت عملية ١١/٩، عندها زادت قوة الطلب الأمريكي بتسليم بن لادن، ولكن الملا عمر أصر على الرفض، ولم يكن يتوقع أن تشن أمريكا حربا عليهم، لكن وقعت الكارثة ودمرت إمارة طالبان واحتلت أفغانستان ووقعت آلاف الجرائم وهدم كثير من العمل الإسلامي والدعوي عبر العالم. 
وفي حرب أمريكا على طالبان تحالف معها المجاهدون، ومنهم جماعة الإخوان وعملاء الروس كرشيد دوستم، واليوم يحاول البعض القفز على تحالفاته الخيانية والمتكررة كتحالف إخوان الجزائر مع العسكر ضد جبهة الإنقاذ، وتحالف الحزب الإسلامي العراقي مع المحتل الأمريكي والإيراني، وتحالف حزب النهضة التونسي مع أتباع زين العابدين كالسبسي، وتحالف حماس مع إيران.
الخلاصة أن تهور بن لادن وجماعته الجهادية وخروجهم عن أمر الأمير الشرعي وسوء تقدير الملا عمر تسببت بهذه الكارثة الكبرى، واليوم يريد تنظيم القاعدة بزعامة الظواهري تكرار المأساة عبر تقديم البيعة لأمير طالبان وتصريحه قبل سنوات أن تنظيم القاعدة ذراع لطالبان خارج أفغانستان، وهو الأمر الذي تعلن طالبان اليوم عن رفضه ومنعه وأنها لا تسمح بأي عمل من أفغانستان ضد دول خارجية حتى تحافظ على شعبها وأرضها من مراهقات الظواهري وأمثاله.
فهل يعي الشباب اليوم أن كارثة هدم إمارة طالبان سببها تنظيم القاعدة وبن لادن ولا يغتروا بتصريحات التأييد التي يطلقها بعض قادتهم هنا وهناك، فهؤلاء في الحقيقة أصحاب حماقات وتهور ولكنهم يرون أنفسهم الحكماء والقادة الحقيقيين، ولذلك إذا رأوا غدا إحجام طالبان عن عمل إيجابي في بعض الملفات لعجزهم وعدم قدرتهم ولدرء المفسدة الكبرى لا أستبعد أن يكرروا خروج بن لادن على أمر طالبان مرة أخرى ويتسببوا بكارثة جديدة.
وخلل تساهل طالبان مع القاعدة التي تقوم على الغلاة والمتهورين تكرر في الثورة السورية حيث تم التساهل مع القاعدة الممثلة بجبهة النصرة ثم التساهل مع داعش تاليًا، مما أغرق هذه الثورة في الصراعات البينية وشق عصا المقاومة وقتل العديد من قادتها وقدم خدمات جليلة للنظام الدموي.  
٣- إذا انتقلنا إلى جانب الذين يذمون طالبان سنجدهم أحد صنفين متناقضين، فهم إما داعشيون يكفرون طالبان بحجة جلوسهم وتفاوضهم مع الأمريكان، بينما داعش قد فاوضت جهات عدة كالروس والأتراك وغيرهم، لكن داعش يحق لها التفاوض لأنها دولة! وعندها خليفة!
صحيح أن خليفتها لا يستطيع الوضوء أو الصلاة في مسجد أو شراء بطيخة لكنه خليفة! وحقيقة عداء داعش لطالبان كونها تقدم نموذج بديلا عن جهل وغلو داعش، وللأسف أن هناك من يقبل هراء داعش ويصدقه.
وتكفير طالبان وقع من الغلاة قديما منذ نشأتها بحجة أن طالبان دخلت منظومة الأمم المتحدة، وكثير من غلو داعش اليوم زرعت بذرته في أفغانستان، وقد كشف ذلك بقوة الأستاذ يوسف سمرين في كتابه القيّم "ماذا قيل يوما في أفغانستان"، وهو بيان لأصل كثير من مقالات الغلو اليوم في ثنايا مقالات مجلة "الجهاد" لعبد الله عزام.
والصنف الآخر ممن يذم طالبان اليوم أتباع منهج التبديع بحجة أن طالبان ليسوا سلفيين وأنهم ماتريدية، بينما كان ربيع المدخلي قد أثنى على طالبان في بداية أمرهم، وفضّلهم على جماعة الإخوان )سياف، حكمتيار، رباني) وذلك في "مجموع رسائله" مجلد ١٥، وهذا يعد تطبيقا عمليا منه لمنهج الموازنات الذي يحاربه!
ومن حماقة بعض التبديعيين اليوم وصفهم لطالبان بأنهم خوارج! لأنهم أسقطوا حكومة عملاء أمريكا التي تضم بعض السلفيين أيضا مع الإخوان، بينما رحبوا قديما بإسقاط طالبان لحكومة المجاهدين التي تضم الإخوان، وكانت طالبان تحظى بقبول رسمي من بعض الدول، مما يكشف عن تطور منهج غلاة الطاعة بحسب الزمن وتبعًا للساسة وليس تبعًا للشريعة والمصلحة الراجحة.
وممّا يجهله التبديعيون أن طالبان فيها اتجاهات ومدارس، بعضها عنده اهتمام بالتوحيد في باب الألوهية والربوبية بقوة مثل تيار إشاعة التوحيد، وقد انظم لهم بعض جماعة دعوة الكتاب والسنة الذين كان يدعمهم ربيع المدخلي، وقسم أخر تحالف مع الحكومة العميلة التي أقامها الأمريكان ودعموها وهي حكومة تحمل نفس عقيدة طالبان الماتريدية وتجمع معها نهج علماني معاد للدين ومحرض على الانفلات، فلماذا تمدحون هذه وتناصرونها وتذمون طالبان وكلاهما مبتدعة عندكم؟ 
الخلاصة أن طالبان تُظلم من تيار الغلو بالتكفير وتظلم من تيار التبديع بالخذلان بينما الواجب نصرتها أمام الكفار ومناصحتها في أخطائها وقصورها والتعايش معها كما تتعايشون مع دول أخرى تعلي منهج البدعة والتصوف لأنها تسير في خط سياسي تتقبلونه.

في النهاية: قصة طالبان لها تفاصيل وخصوصية ينبغي وعيها واستيعابها ولعلّ من أفضل ما يصلح كمدخل لذلك الدراسة المركزة لكرم الحفيان بعنوان "تجربة طالبان قراءة خلدونية"، وتجربة طالبان لا يجوز استنساخها في مكان آخر دون توفر شروطها الموضوعية والذاتية، وهي تجربة فيها دروس وعِبر كثيرة لمن أراد أن يتدبر ويعقل ويستفيد من تجارب الآخرين ليتجنب الأخطاء ويتبع الصواب، وهذا يحتاج إلى تعلم وقراءة وبحث وترك الكسل والانسياق خلف الشعارات والعواطف.