إن الإسلام الذي أنزله الله عز وجل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم نقل العرب من القاع إلى القمة، فبعد أن كنّا نحن العرب قبل الإسلام "قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف" كما أخبر جعفر بن أبي طالب النجاشيَّ ملك الحبشة، أصبح العرب سادة الدنيا وقادتها، وذلك بسبب تمسكهم بالوحي الرباني المتمثل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.
هذا الوحي الرباني غيّر نظرتهم للدنيا والآخرة، فتغيرت أفكارهم وسلوكياتهم، هذا الوحي الرباني الذي كانت القراءة بداية أوامره، هذا الوحي الرباني الذي جعل اتباع العلم الصحيح سبب السعادة والنجاح في الدارين، وجعل العقل مناطاً للعقاب والثواب.
فأول ما أثمر هذا الوحي في حياة العرب الحرية والانعتاق من قيود الوثنية والاستكبار، والانطلاق للتفكر في ملكوت الله سبحانه وتعالى، فتولد من ذلك العزة والقوة والمنعة والغنى، وانتشار العلم والفكر والثقافة.
ولما بدأت أنوار الإسلام تسطع على العالم خارج الجزيرة العربية، بدأت الحاجة تفرض نفسها تجاه حفظ الدين وتبليغه للأسرة البشرية جمعاء صافياً نقياً، فجادت عقول المسلمين بابتكار منهجية علمية فريدة تتكفل بنقل أمانة الوحي الرباني للبشرية سليمة صحيحة لا شبهة فيها، عرفت بعلم الحديث الذي تبلور مع السنين، والذي بلغ من الدقة والعناية الدرجة القصوى، حتى وصف بأنه العلم الذي نضج واحترق!!
ولأن الثقافة في ذلك العصر كانت ثقافة شفوية تعتمد على الحفظ، الذي يتميز به العرب – ولا يزال الشناقطة في موريتانيا لليوم مثالاً حياً لقوة الحافظة الخارقة – أصبح العلماء لا يقبلون أي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا ذكر إسناده، وهو سلسلة الرجال الذين رووا الحديث، على قاعدة من أين لك هذا؟ كما يقول الإمام عبدالله بن المبارك: الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولكن إذا قيل له: من حدَّثك؟ بقى (أي ساكتاً منقطعاً مفحماً(.
فأصبح منهج الإسناد ميزة تميزت بها أمة الإسلام على جميع الأمم السابقة واللاحقة، وكان لأهل السُّنّة السبقُ والإنفراد بهذه الميزة على سائر الفِرق الإسلامية.
وبابتكار منهج الإسناد تمكن المسلمون من حفظ الدين والوحي من تلاعب الزنادقة، وإيصال الوحي الرباني سليماً للبشرية، وقد اعترف بهذا بعض المستشرقين مثل مرجليوث الذي قال: "ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم".
ولم يقف الأمر بمنهجية الإسناد عند ذكر أسماء الرجال الذين نقلوا الحديث، بل تعداه لفحص قضيتين أساسيتين، الأولى: هل تعاصر هؤلاء الرجال فيمكن لقاؤهم واجتماعهم ؟ والثانية: هل يوجد عيب ظاهر أو خفي في هذا الإسناد أو المتن؟
وللوصول للحقيقة في القضية الأولى "هل تعاصر هؤلاء الرجال فأصبح لقاؤهم واجتماعهم ممكنا"؟ نشأت عدة علوم فرعية في علم الحديث منها: علم الرجال، الذي عني بضبط أسماء الرواة وأنسابهم وبلدانهم، وتاريخ ولادتهم ووفاتهم، ومن لقوا من الشيوخ أو الصحابة، وماذا رووا عن كل واحد، وما هي البلاد التي زاروها، ونشأ علم الجرح والتعديل الذي اختص ببيان الثقة الحافظ مِن سيئ الحفظ، والمجروح من الرواة وبينوا سبب جرحه، وللعلماء في ذلك عناية بتفاصيل دقيقة عن شخصية الراوي في مراحله العمرية، ومدى دقته، ودقة حفظه أو كتابته وهل كان يمكن أن تتعرض دفاتره وما كتبه للعبث!!
وللوصول لكل هذه الحقائق تم تأليف مئات الكتب التي لم يسبق أن عرفها التاريخ، فهناك كتب حصرت أسماء الصحابة، وكتب تختص بتأريخ وفيات الرواة، وكتب تعنى بتقسيم الرواة إلى طبقات من حيث الحفظ أو المكانة والتاريخ، وكتب سردت سيرة الراوة بالتفصيل مع بيان رواياتهم وشيوخهم، وكتب لخصت حالة الراوي في حكم مباشر من بطون الكتب الموسعة، ومن ثم تم إفراد كتب لأسماء الرواة الثقات وكتب لأسماء الرواة المجروحين، وهذه الجهود العظيمة قامت على أدق المعايير العلمية كاللقاء المباشر والتجربة والاختبار- وهذا تطلب السفر للقاء الرواة والمحدثين من العلماء وهو ما عرف باسم الرحلة في طلب الحديث والذي أفردت له كتب عدة - مع فحص الأحكام المختلفة في الراوى ووضع معايير تحكم عملية الفحص سميت بقواعد الجرح والتعديل، وضعت أجوبة لكل الحالات الافتراضية لوضع الراوي.
وهذه بعض الأمثلة التي تبين عبقرية ودقة منهج الإسناد في مجال الرواية:
1- قال أبو عبدالله الحاكم: لما قدم علينا أبو جعفر محمد بن حاتم الكشي وحدث عن عبد بن حميد، سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومئتين، فقلت لأصحابنا: سمع هذا الشيخ من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة!!
2- لما سئل الإمام علي بن المديني عن والده، قال: سلوا عنه غيري، فلما ألحوا عليه، قال: هو الدين، إنه ضعيف. فلا مجاملة عند المحدثين في أحكامهم على الرواة.
3- من دقة علماء الحديث في أحكامهم على الرواة أنهم لم يكتفوا بقبول روايته كلها أو ردها كلها، بل فصلوا في ذلك، فقد يقبلون روايته وهو شاب ويردونها وهو شيخ كبير، وقد يقبلون روايته من كتاب ويردونها إذا كانت من حفظه، بل قد يقبلون رواياته كلها إلا عن شيخ معين أو في حديث محدد.
ورغم تعصب المستشرق الألماني سبرنكر ضد الإسلام، إلا أنه لم يستطع إلاّ الاعتراف بأنه "لم تكن فيما مضي أمة من الأمم السالفة كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم".
عبقرية علماء الحديث 1
2014/05/01
الرابط المختصر
Image