في الأسبوع الماضي عرضنا للمحة سريعة عن جانب الإبداع والعبقرية عند علماء الحديث في قضية الرواة وتعاصرهم وإمكان لقائهم ومدى دقتهم وضبطهم وحفظهم.
واليوم سيكون الحديث عن الجانب الثاني المتعلق بعلاج إمكانية وجود عيب ظاهر أو خفي في الإسناد أو المتن.
الخلل في الرواية لا يقتصر على تعمد الكذب والتزوير الذي قام به الزنادقة، ولا من سوء حفظ الراوى أو فسقه أو جهالته فقط، وهو ما عالجه علم الرجال كما بينا من قبل، بل قد يقع – أحيانا نادرة - بعض الرواة الثقات في الخلل من باب الخطأ والسهو أو التصحيف أو انتقال البصر عند القراءة وهذا مما جبل عليه البشر، ولعلاج هذه المشكلة في الإسناد نشأ علم العلل الذي ركز على فحص روايات الثقات وكشف ما قد يعتريها من وهم أو عيب ولو كان دقيقا وهذا ما تفرد به الأئمة الكبار لكونه يحتاج إلى علم ومعرفة كبيرة جداً بطرق الأحاديث ودراية وخبرة دقيقة بأحوال الرواة وسيرتهم، قال الحافظ ابن حجر: " وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله – تعالى – فهماً غايصاً، واطّلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ولهذا لم يتكلّم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذّاقهم"، وقد عرف الحافظ العراقي الحديث المعلول بقوله: "المعلل حديث ظاهره السلامة أطلع فيه بعد التفتيش على قادح".
والذي يكشف العلل في الروايات هو جمع هذه الروايات ودراستها معاً، فتنكشف العلل الخفية والدقيقة، وذلك بمقارنة اختلافات الرواة، فإذا جمعت الطرق كلها بان لك مَنِ الذي وهم؟ ومَنِ الذي حفظ؟ وأين الراوي الذي خالف؟ ومَنِ الراوي الذي يتحمل عهدة هذه المخالفة أو هذه النكارة؟ ومَنِ الراوي الذي يفلت من هذه العهدة ؟ إما لثقته، وإمّا لمتابعة غيره له، أو غير ذلك من الأمور التي يعرفها المختصون بهذا الشأن، وبهذا يعرف حال الراوى عموما وحال آحاد رواياته.
والعلة إمّا أن تكون في السند أو المتن، وقد تجتمع فيهما، وقد تقدح وتعيب الرواية وقد لا تؤثر.
ومن الأمثلة على العلة في السند:
1- حديث الأعمش عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض". فهذا الإسناد مع صحته؛ لأن رجاله ثقات, لكن فيه علة وهي عدم سماع الأعمش من أنس, وهذا رأي أكثر المحدثين، فلذلك أعلوا هذه الرواية مع تصحيح الحديث بعدم سماع الأعمش من أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن المديني: الأعمش لم يسمع من أنس بن مالك , وإنما رآه بمكة يصلي خلف المقام. والرؤية لا تعد من الرواية، وهذا من عبقرية الدقة عند المحدثين.
2- حديث يعلى بن عبيد الطنافسي، عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار"، فقد غلط يعلى عن سفيان في قوله عمرو بن دينار، لأن الأئمة الحفاظ من أصحاب سفيان رووه عن عبد الله بن دينار، لا عن عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة.
ولكن وجود العلة لا يعنى بالضرورة أن السند أو المتن غير صحيح، فقد تكون العلة غير قادحة أو مؤثرة، كإبدال اسم راوى ثقة بأخر سهوا كما في مثال عبدالله بن دينار. ولحرص علماء الحديث على الدقة المتناهية حتى في هذه العلل التي لاتقدح في الحديث بينوها ونصوا عليها في كتبهم أمانة للعلم وصدقاً في النقل.
وألف العلماء وخاصة المحدثين أنفسهم في هذا الباب العديد من الكتب تحت اسم "كتاب العلل" كعلي ابن المديني، وابن أبي حاتم، والخلال، والدارقطني، وللإمام أحمد كتاب" العلل ومعرفة الرجال" وللترمذي كتاب " العلل الكبير".
هذا بالنسبة للعلة في الإسناد أما العلة في المتن، فقد أولاها العلماء العناية القصوى ووضعوا لها القواعد والضوابط الكفيلة لكشف أي زيف، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم قد راعوا ذلك من قبل.
فالحديث إذا سلم رواته من الضعف واستحالة لقائهم ولم يكن في سنده عيب يقدح فيه، بقي النظر في متنه هل من عيب يقدح فيه؟
وقد ألف جمع من أهل العلم كتباً تبين الأحاديث الموضوعة التي لا تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلوا فيها قواعد محكمة يتوصل بها العلماء إلى أن هذه الرواية لا تصح منها:
أن يكون المتن مناقضاً للقرآن الكريم، مثل ما روي "عمر الدنيا سبعة آلاف سنة" قال ابن القيم هذا من أبين الكذب لأنه لو كان صحيحا لكان كل أحد عالما أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وأحد وخمسون سنة، والله تعالى يقول: " يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي" (الأعراف 187).
ومن قواعد نقد المتن عرضه على الحقائق والوقائع التاريخية، كما في قصة حديث: "وضع الجزية عن أهل خيبر"، ففي زمن الخطيب البغدادي أظهر بعض اليهود كتابًا يدّعون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـه فيه إسقاط للجزية عنهم، وادعوا أنه بخط عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، وحين طالع الخطيب البغدادي قال هذا الكتاب مزور ومكذوب، ولما طلب منه الدليل على ذلك قال: أن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر بل بعد ذلك يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس للهجرة.
وربما نقد العلماء المتنَ من خلال المقارنة بين الروايات لنفس المتن، فيتبين زيادة لفظة أو تصحيف كلمة أو تقديم وتأخير بين ألفاظه. أو أو أنّ المتن ألفاظه ركيكة أو سمجة لا توافق أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم ولا توجد عليها آثار النبوة مثل قولهم " أربع لا يشبعن من أربع: أرض من مطر وأنثى من ذكر وعين من نظر وأذن من خبر".
وهكذا يتبين أن علماء الحديث لهم منهجية في غاية الدقة والموضوعية يحكمون من خلالها على الأحاديث صحة وضعفاً، قَبُولاً ورداً وليست القضية تحكم بالأهواء.
لما استنكر بعض أهل البصرة على العالم بعلل الحديث الإمام عبد الرحمن بن مهدي سبب تضعيفه لرواية رجل من أصحابهم، غضب عبد الرحمن بن مهدي، وبين لهم أن علم الحديث كعلم الصيرفة والذهب، لا يراجع فيه الخبير، وأن الخبير قد يعجز أحياناً عن بيان السبب، لكن خبرته تدله على ذلك، وقال: "الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم".
عبقرية علماء الحديث 2
2014/05/01
الرابط المختصر
Image