عندما يكون العم سام ناسكاً!

الرابط المختصر
Image
عندما يكون العم سام ناسكاً!

دراسة تحليلية نقدية لمواقف مراكز البحوث الأمريكية عن الصوفية
صدرت هذه الدراسة المتميزة حديثاً عن مركز الفكر المعاصر بالرياض في مطلع سنة 2015م، وهي في الأصل رسالة دكتوراه تقدم بها الدكتور صالح بن عبدالله الحساب الغامدي لقسم الدعوة والثقافة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1435هـ.
هذا الكتاب يقوم على أربعة محاور هي: الاستشراق والمستشرقون، مراكز الدراسات الأمريكية، السلفية، الصوفية والصوفيون، وقد عرّف بهم واستعرض نشاطهم وجانبا من فكرهم ومواقفهم تجاه بعضهم بعضا.
ويمزج الكتاب بين تقديم الخلفيات الفكرية والتاريخية وبين التطبيقات الواقعية المعاصرة على الأرض، مما يربط الفكر بالحركة ويجعل القارئ أكثر استيعابا وفهماً لما يجري حوله من مواقف وخطوات تبدو متعارضة أحياناً.
وغاية الكتاب الأساسية الكشف عن جانب من المخططات الأمريكية بروافدها المختلفة نحو التعامل مع الظاهرة الكبرى في العالم الإسلامي اليوم وهي ترسخ الهوية الدينية والسلفية تحديداً، عبر دعم وتعزيز حضور التيار الصوفي في العالم وتحديداً الصوفية المغالية في عقائدها الباطنية أو في عدائها للحركات الإسلامية والدعوة السلفية.
تقع هذه الدراسة في 500 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من تمهيد وأربعة فصول، تناول المؤلف في التمهيد التعريف بالاستشراق ومراكز الدراسات الأمريكية والتصوف.
ومن أهم فوائد هذا التمهيد عرض الاختلاف الواسع في أصل كلمة الصوفية دون الوصول لنتيجة حاسمة، وتشابه كثير من العقائد والطقوس بين الصوفية والديانات السابقة على الإسلام مع خلو المصادر الإسلامية منها، كعقيدة وحدة الوجود، التي تعتبر مركز التصوف عند الباحثين، وطقوس الحضرة والذكر الراقصة.
وينبه الباحث لضرورة الفصل بين الحديث عن التصوف كفكرة وتنظير، وبين الحديث عن الصوفيين كأشخاص، فقد يكون هناك فارق كبير بينهما، كما هو حاصل في واقع المسلمين والإسلام.
في الفصل الأول ناقش المؤلف موقف المستشرقين من الصوفية، بوصفهم آباء وأصل مراكز الدراسات الأمريكية، وخلص فيه إلى أن المستشرقين اهتموا بالتصوف، بل وتخصص بعضهم فيه حتى أصبحوا مرجعاً معتمداً في علومه وتاريخه وعقائده حتى عند كبار المتصوفة مثل المستشرق الفرنسي ماسنيون، والإنجليزي نيكلسون، وأنهم في البدايات أثبتوا أنه دخيل على الإسلام، ثم لما وجدوا أن التصوف مفيد للاستعمار (كثير من المستشرقين كانوا مستشارين للاستعمار) عادوا للقول بأن التصوف أصيل في الإسلام!
وقد اهتم المستشرقون ببعث التراث الصوفي ونشره وتحقيقه، وكان لهم الجهد الأكبر في ذلك، وقد مجدوا كثيرا من شخصيات الصوفية التي رفضها العلماء والفقهاء بسبب تجاوزاتها الشرعية كابن عربي وابن الفارض والحلاج.
جاء الفصل الثاني لبيان موقف الصوفية من السلفية والعلمانية وعقيدة الولاء والبراء والجهاد والاستعمار.
 وخلص الباحث إلى أن عداء الصوفية للسلفية ينبع في كثير منه من العقيدة الأشعرية التي يلتزمها الصوفية غالباً، فإباحة الصوفية لكثير من الشركيات عند القبور وسؤال غير الله عز وجل منبعها معتقد الأشعرية التي تحصر التوحيد في توحيد الربوبية فقط ولا تكترث بتوحيد الألوهية كحال السلفية.
وينقسم الصوفية في عدائهم للسلفية إلى قسمين، قسم مناوئ للسلفية بجفاء ظاهر، كحسن السقاف في الأردن والطريقة العزمية في مصر ويوسف هاشم الرفاعي في الكويت وهشام قباني في أمريكا، وقسم يعادي السلفية بدهاء، حيث انشغلوا بنشر التصوف والدعاية له، مثل عمر عبدالله كامل بالسعودية وعبد الله بن بيه الموريتاني وعلي الجفري اليمني، وهذا التقسيم للحالة الغالبة، وإلا فقد تجد من أهل الدهاء من يجاهر بالعداء أحياناً.
أما بخصوص العلمانية فقد ركز المؤلف على أن التصوف كان له دور كبير في ترسيخ العلمانية في العالم الإسلامي خاصة بعد سقوط الدولة العثمانية، من خلال سلبية الصوفيين تجاه السياسة من جهة، ومن خلال استفحال الخرافة والجهل في عموم المتصوفة مما يعيق إدارة الدول ويفتّ في قوتها، ومن خلال بعض عقائد الصوفية المنحرفة مثل الاستسلام للأقدار المكروهة فالصوفية ترى أن الرضا بغزو بلاد المسلمين مطلوب ومِن الدين! ولذلك ترفض المقاومة!
وحول موقف الصوفية من الجهاد أثبت المؤلف أن الفكر الصوفي منافٍ للجهاد ويقصرون الجهاد على جهاد النفس استنادا لحديث منكر لا أصل له "رجعنا من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر"، ومما يبعدهم عن الجهاد اعتقادهم أن الله عز وجل يحب كل ما يقع في الكون من أحداث، فعندهم أن الله يحب احتلال بلاد المسلمين ولذلك تخلف أبو حامد الغزالي عن الجهاد بل لم يَكتب عن الجهاد في كتابه (إحياء علوم الدين) برغم أنه عاصر احتلال الصليبيين للقدس والمسجد الأقصى!! بينما عقيدة أهل السنة أن الله عز وجل لا يقع في ملكه شيء لم يسمح به، ولكنه لا يرضى ويحب كل ما سمح به، فالله عز وجل خلق الخير والشر، ولكنه يحب الخير، ويحب مدافعة الشر، وهذا الذي لم يفهمه الصوفية.
ومن العقائد التي صدت الصوفية عن الجهاد المفهوم المنحرف للتوكل على الله عز وجل بعد الأخذ بالأسباب، ومن ذلك عقيدة الإرجاء التي تميّع مبادرة المسلم للجهاد، وعقيدة وحدة الوجود التي لا ترى فرقاً بين المسلم والكافر والخالق والمخلوق، فلِم الجهاد؟
كما أن السلوك الصوفي ينافي الجهاد، فتراث الصوفية طافح بالحث على الكسل والعزلة والجهل وترك الأسباب، فكيف لهذا التراث أن ينسجم مع الجهاد والبذل والتضحية؟!
ثم استعرض المؤلف تعامل الصوفيين مع طلائع الاستعمار وكيف أنهم انسجموا معه وساعدوه في توطيد أركانه في بلاد الإسلام، ولعل ما قامت به الطرق الصوفية في الجزائر أكبر شاهد على ذلك.
ورغم أن فكرة المؤلف تجاه تورط الصوفية في ترسيخ العلمانية والاستعمار في بلادنا والصدّ عن الجهاد والمقاومة في عمومها صحيح، إلا أني أخالفه في تعميمه هذا على كل الصوفيين في الدولة العثمانية والعالم، فقد فاته جهود آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية، مصطفى صبري، الذي تصدى للعلمانية والإلحاد بكل قوة، وهكذا ظلم السلطانَ عبد الحميد الثاني الذي بقي يدافع الاستعمار والعلمانية ثلاثة عقود تقريباً، وأيضاً في تناوله لجهود الشيخ سعيد النورسي ففيه إجحاف بحقه.
ولعل هذا الخلل وقع من عدم التزام المؤلف بتنبيهه في التمهيد بالتفريق بين الصوفية والصوفيين، ولذلك وقع تعميم غير صائب على كل القوى والشخصيات الصوفية في باب السياسة والجهاد والولاء والبراء، ذلك أنه وجد حالات متكررة تصل لتشكل ظاهرة عند الصوفية في موقفها السلبي في الجهاد والسياسة ومدافعة العلمنة، فسحب ذلك على الجميع.
والصواب في المسألة في ظني أن المؤلف وُفّق في التنظير للخلل الذاتي في الفكر الصوفي في باب الجهاد والولاء والبراء ومقاومة العلمنة، ووُفّق في حشد الكثير من الأمثلة التطبيقية لهذا الفكر الصوفي المنحرف تجاه الجهاد وحماية الإسلام ومقاومة الغزو، لكنه حين اصطدم ببعض الوقائع الإيجابية لشخصيات وتجمعات صوفية في باب الجهاد وحماية الإسلام لجاء لنفي التصوف عنها واعتبارها اهتدت بهداية الكتاب والسنة، وكان يمكنه أن يبقي على وصفها بالتصوف والاعتراف لها بصواب موقفها في الجهاد والدفاع عن الإسلام، ولكن الباعث لها على ذلك ليس التصوف لأنه منحرف في هذا الباب، بل لأنها سطحية التصوف أو لأن صوفيتها تقتصر على بعض البدع ولم تصل لحد الانحراف الفكري العميق الذي يمنعها عن الجهاد والدفاع عن الإسلام، وأن الباعث لها على الجهاد والإيجابية هو روافد الخير الإسلامية الأخرى، وهذا يتفق مع مفهوم أهل السنة أن المسلم يجتمع فيه خير وشر، ويتفاوت حال ذلك من شخص لشخص أو طائفة لطائفة؛ وعموماً هذه قضية لا تزال تحتاج مزيداً من التنظير والطرح.
الفصل الثالث خصصه المؤلف لدراسة مواقف مراكز البحوث الأمريكية من السلفية والصوفية، حيث وجد المؤلف أن مواقف مراكز البحوث ومِن قبلها المستشرقون متطابقة تقريباً سواء تجاه السلفية بوصفها مواقف سلبية غالباً، وتجاه الصوفية بوصفها مواقف إيجابية!
ولاحظ أن جزءا من الدراسات التي تجريها مراكز البحوث حول السلفية قام بها باحثون صوفيون أو شيعة، وجزء كبير من مصادرهم هو من خصوم السلفية سواء من المستشرقين القدماء أو من العلمانيين المعاصرين فضلاً عن الباحثين اليهود والنصارى المتعصبين.
أما بخصوص مواقف مراكز البحوث من الصوفية، فهي إيجابية غالباً وتوصياتها تدور على أهمية دعم تمددها، والاعتماد عليها في حفظ مصالح الغرب ومحاربة التطرف، وجزء كبير من هذه النظرة رسخها الشيخ الصوفي هشام قباني في زياراته للكونجرس والبيت الأبيض ومراكز البحوث مبكراً من عام 1999م، وقبل تفجيرات نيويورك المعروفة بأحداث 11/9/2001.
وقد فحص المؤلف ردة فعل الصوفيين على هذه التوصيات الغربية في مواقع الصوفية ودراساتهم ومقابلات مباشرة مع بعض الصوفيين، وخلص إلى أنهم يتعمدون إخفاءها أو التقليل من شأنها أو تبريرها، مما يؤكد إدراكهم لها وانخراط رؤوسهم في مخططاتها بوعي وتصميم.
وجاء الفصل الرابع والأخير ليستعرض الحراك الصوفي المعاصر بعد 11/9، في البداية استعرض الباحث جوانب من الدعم الأمريكي للصوفية المعاصرة والذي لا يقتصر على الدعم المالي بل يشمل الدعم الإعلامي والسياسي والتسهيلات التي تحظى بها، كما استعرض اللقاءات المتكررة بين رموز صوفية وقيادات البيت الأبيض والكونجرس، ومشاركة السفراء الأمريكيين في المناسبات الصوفية في الدول الإسلامية، كما أصبح الحديث عن الصوفية يبرز في الخطابات الرسمية للرؤساء الأمريكيين، وتتابعت التقارير الأمريكية في الترويج للصوفية والمطالبة بتمكينهم بدون حساب.
ثم تناول بنوع من التفصيل تطور الحراك الصوفي بعد 11/9 في السعودية والإمارات والجزائر والمغرب، حيث لوحظ أن صوفية الحجاز انتهزوا فرصة الجو المشحون ضد السلفية في الغرب للترويج لمظلوميتهم وتطرف المؤسسة الدينية السعودية، وهو يشبه ما فعله صوفية الحجاز عقب أحداث جهيمان سنة 1400هـ، أما في الإمارات فعقب وفاة حاكمها الشيخ زايد حدث تحول واضح نحو تبني الصوفية بقوة، فتم استقدام الصوفي اليمني علي الجفري وتمكينه في الجانب الديني الرسمي وإنشاء مؤسسة (طابة) سنة 1426هـ، وتم استبدال ضيوف محاضرات رمضان بشخصيات صوفية بدلا من الرموز السلفية.
وفي الجزائر لجأت الدولة عقب حل جبهة الإنقاذ في مطلع التسعينيات للمتصوفة، ولكن عقب 11/9 عادت الدولة لتعلي من دور الصوفية بشكل كبير، ومع مجيء الرئيس بوتفليقة الصوفي الميول صار للطريقة العلوية حظوة كبيرة في الجزائر.
أما في المغرب فالصوفية لها حضور كبير أصالة، وتنامى ذلك مع مجيء أحمد التوفيق وزيراً للأوقاف بوصفه أحد مريدي الطريقة البودشيشية، وأصبح ملتقى سيدي شيكر الصوفي يتمتع برعاية ملكية ورسمية ويحضره سفراء غربيون وقيادات صوفية من خارج المغرب.
وشهد الحراك الصوفي تناميا في الجانب الإعلامي، فظهرت العديد من الفضائيات الصوفية الحكومية والخاصة منذ عام 2008، كما شهدت العديد من القنوات الأخرى برامج ومسلسلات وأفلاما تروج للتصوف، أما في شبكة الإنترنت فلهم حضور واسع، كما لهم عدد من المجلات الخاصة بهم، فضلاً عن مئات المقالات المؤيدة للتصوف في الصحف السيارة.
ويرى المؤلف أن الاستعمار قديماً ومراكز الأبحاث والساسة في الغرب وأمريكا يركزون على بعض الصفات في الصوفية لتمرير مخططاتهم في بلاد الإسلام وهي: عقيدة وحدة الوجود وعدم الاهتمام بالجهاد والطاعة المطلقة للشيخ، وهي صفات تخدم استقرار التدخل والسيطرة الخارجية على المسلمين.
وعقب 11/9 وبتحريض غربي أصبح الخطاب الصوفي يروج نفسه ويُروج باعتباره الإسلام الحقيقي، وخصوصا فكرة وحدة الوجود، وهي عقيدة كفرية عند المسلمين، لكنها عند أمريكا والغرب هي العقيدة المناسبة لهم لترسيخ احتلالهم المباشر وغير المباشر على بلادنا.
ومن أجل ذلك شهدنا تطورا في الحراك الصوفي بتأسيس مراكز علمية صوفية، وتفعيل نشاط الصوفيات، وإبراز التصوف الجديد الذي لا يرتبط بالدروشة والحضرة الصوفية، والتركيز على التسامح بين الأديان بما يفرط في حق الإسلام، وكثرة الملتقيات والمؤتمرات والاتحادات الصوفية.
وأفرز هذا مشاركة صوفية قوية في السياسة المعاصرة، وهي غالباً ما تتحالف مع السلطات العلمانية القائمة في بلادنا، وتتقاطع مع حرب الأفكار التي تشنها أمريكا على التيار الإسلامي في العالم.
الخلاصة: بذل المؤلف في الكتاب جهداً كبيراً في جمع وتصنيف المعلومات والحقائق، يستحق الشكر عليه، كما قدم تحليلاً عميقاً لحقيقة التحركات الأمريكية والصوفية المعاصرة، وفي هذا المجال يمكن المجادلة مع المؤلف في بعض الوقائع والأحداث، حيث قد يكون وقع في التعميم أحياناً، واعتبار كل الصوفيين على شاكلة واحدة من اتباع العقائد الباطلة والولوغ في التبعية والعمالة لغير المسلمين، وهو الأمر الذي يستحق المزيد من التحليل والدراسة والمراجعة، لكن بالتأكيد قام المؤلف بإنجاز كبير في هذا المجال وله فضل التأصيل والتأسيس، ويبقى المجال مفتوحاً للتحسين والتكميل والتصويب.