غاية الوجود "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"

الرابط المختصر
Image
غاية الوجود "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"

في مكان ما تم إقامة بناء ضخم وجميل وفيه كافة المرافق اللازمة لمثل هذا البناء، وتم تجهيزه وتأثيثه بشكل متقن وسليم، وبقي الناس متحيرين في الغاية من هذا البناء الجديد، ولما اكتمل بناؤه وتم افتتاحه تزايد الفضول، فسألوا المشرفين عن غاية هذا البناء، فليس هناك عنوان له أو شرح لوظيفته، وهنا جاءت الصدمة حين كان الجواب أن هذا البناء الجميل والكبير ليس له وظيفة ولا غاية! وهذا الجواب مناف للعقل والمنطق ولا يصدر إلا عن غير سوي، فلا يعقل أن تبذل الأموال الطائلة والجهود المضنية والأوقات الطويلة بدون هدف وغاية.
وهذا الموقف اللاعقلاني هو حال من ينكر أن يكون لهذا الكون العظيم الذي خلقه الله عز وجل وأتقن صنعه وبناءه غاية وهدف، قال تعالى: "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا  من النار" (ص: 27)، وقال تعالى أيضا: "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا تُرجعون" (المؤمنون: 115).
ولهداية الناس وإرشادهم لسبيل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بيّن القرآن الكريم وبكل وضوح غاية خلق الله عز وجل للكون فقال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون" (الذاريات: 56-57)، وبين القرآن الكريم أن الغاية من خلق الكون -وهي العبودية- لا تختص بالإنس والجن بل الكون كله وبكل ما فيه، قال الله عز وجل في في فاتحة كتابه: "الحمد لله رب العالمين" (الفاتحة: 2) والعالمين جمع عالَم، أي عالم الإنس وعالم الحيوان وعالم النبات، وهكذا كل العوالم، وقال تعالى في إجمال أوسع: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب" (الحج: 18) فالكون كله بجماده وشجره وحيوانه وبشره وجِنّه وملائكته وكل ما فيه مما لا نعرف أيضاً يسجد لله عز وجل، وهذه قمة العبودية.
وآيات القرآن الكريم زاخرة بالتنبيه على عبودية كل الكائنات لله عز وجل، وللأستاذ فريد إسماعيل التوني كتاب جميل وقيّم في تفصيل ذلك اسمه "عبودية الكائنات لرب العالمين" جمع فيه الآيات الدالة على عبودية الكائنات لرب العالمين، قسمها لقسمين، القسم الأول عبودية الكائنات في عالم الشهادة، وهي:
عالم الإنس، قال الله تعالى: "والله بصير بالعباد" (آل عمران: 15)، أي: الإنس كلهم المؤمن والكافر عباد لله عز وجل وهو مطلع على أعمالهم ونواياهم.
عالم الحيوان، قال الله تعالى: "ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة" (النحل: 49)، وهذه آية عامة في عبادة الحيوانات لله عز وجل. وفي القرآن الكريم والسنة النبوية آيات وأحاديث كثيرة تتعلق بعبادة نوع محدد من عالم الحيوان يضيق المجال عن سردها ومثال عليها قوله صلى الله عليه وسلم: "قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله" رواه البخاري.
عالم النبات، قال الله تعالى: "والنجم والشجر يسجدان" (الرحمن: 6).
عالم الجماد، قال تعالى: "وسخّرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين" (الأنبياء: 79).
وسجود الحيوانات والنباتات والجمادات وتسبيحها لله عز وجل وغيرها من الكائنات سجود وتسبيح عبادة حقيقي لله عز وجل لا نعرف كيفيته "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" (الإسراء: 44)، وكما توصل العلم اليوم لوجود لغة تواصل وتخاطب بين الحيوانات لا نعرف حقيقتها فقد نصل في المستقبل لمعرفة ذلك أو يبقى في علم الغيب، إلا أننا نؤمن به كجزء من إيماننا بعالم الغيب الذي أخبرنا عنه الله عز وجل في القرآن الكريم أو رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.
والقسم الثاني عبودية الكائنات في عالم الغيب:
عالم الملائكة، قال تعالى: "وترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم" (الزمر: 75).
عالم الجن، قال تعالى: "قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا" (الجن: 1-2).
وبعد هذا الاستعراض يتبين لنا أن الكائنات كلها لا تنفك عن العبودية لله عز وجل، ولكن هذه العبودية تنقسم لعبودية عامة تضم جميع الكائنات وهي عبودية القهر والرضوخ لسنن وقوانين  الله عز وجل التي وضعها في المخلوقات كلها لا ينفك عنها أحد، وهو ما أخبر عنه تعالى في قوله: " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون" (آل عمران: 83).
وعبودية خاصة وهي عبودية الطاعة والاختيار والقيام بالعبادة من الصلاة والصوم والسجود والتسبيح، وهي نوعان: نوع جبل الله عز وجل بعض الكائنات عليها كالملائكة والحيوانات والنباتات والجمادات، فليس فيهم كافر رافض للعبادة ولذلك لا يثابون عليها بالجنة.
ونوع خاص بالإنس والجن يثابون عليها ويعاقبون على تركها، وهي التزام دين الله عز وجل الثابت والدائم -وهو الإسلام الذي سنفصله في مقال قادم-، ولذلك منح الجن والإنس حرية الاختيار لهذه العبودية وهي التي أرسل الله عز وجل الرسل لكل أمم الأرض يعرفونهم بها ويذكّرونهم بها، قال تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم  والذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 21)، وقال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" (النحل: 36).
ومن أجمل وأوضح ما قاله المفسرون في بيان مفهوم العبادة قول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والأعراض عمّا سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل فهذا الذي خلق الله تعالى المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم".
ومعرفة الله عز وجل هي أساس العبادة، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى "إلاّ ليعبدون" أي: ليعرفون، وهذه المعرفة لله عز وجل أنه الخالق الرازق المدبر المالك الحاكم صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى الذي أبدع هذا الكون وأتقنه وجعل فيه قوانين تسيره رغماً عن جميع الكائنات، وجعل فيه قوانين من سار على هديها سعد في الدنيا وسعد في الآخرة.
ولذلك كانت الثمرة والنتيجة لكل من عرف الله عز وجل حق قدره، هي الحب له والطاعة المطلقة لله عز وجل، ومن أعمق تعاريف العبادة عن المحققين من أهل العلم قولهم: "العبادة غاية الحب مع غاية الخضوع"، ومن أشمل تعاريف العبادة قولهم: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة".
والعبادة بهذا المفهوم الشامل في الإسلام والتي تصرف لله عز وجل وحده هي التي تحقق السلام والأمن والرخاء والسعادة، لأنها بداية تهتدي للمعرفة الصحيحة لهذا الوجود أنه مخلوق من الله عز وجل صاحب الكمال والجلال والذي يستحق الحب والطاعة، ثم لأنها تحرر نفوس الناس من عبادة العبيد أمثالها من بشر وجماد وظواهر طبيعية وغيرها لتعبد الخالق والرب الواحد وهو الله عز وجل، وترسخ في النفس الحقيقة المطلقة من وجود رب خالق منعم متفضل هو الله عز وجل يستحق العبادة والطاعة وعبد معترف بربه ومطيع له.
ثم هذه العبادة لا تنحصر في شعائر وطقوس بل تشمل كل مظاهر الحياة من فعل الخير والإحسان للإنسان والحيوان والجماد، وفيها الحث على عمارة الكون واستثماره، وأيضا إن العبادات والشعائر الصرفة في الإسلام تنطوي على مصالح دنيوية بالغة الأهمية للفرد والمجتمع والكون، ففيها النظافة بالوضوء وفيها الحركة والنشاط والصحة بالصلاة والصوم والحج، وفيها مساعدة الآخرين بالزكاة والصدقة والكفارات.
هذا المفهوم القرآني للعبادة والذي تمثله النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه لأصحابه هو الذي مكنهم من بناء حضارة الإسلام في زمن قياسي وعلى مساحة واسعة، وبقيت راسخة في قلوب الشعوب والقبائل على مختلف ألوانها وأجناسها ولغاتها برغم تغير الأحوال من قوة إلى ضعف.
وفي ظل تحقيق الغاية من وجود هذا الكون والبشرية وهي العبادة ازدهرت العلوم الشرعية والدنيوية كالرياضيات والهندسة والعمران وعلم الميكانيكا (علم الحيل) والفلك والجغرافيا والكيمياء والطب وغيرها من العلوم في الحضارة الإسلامية، وانعكس ذلك بازدهار العمران وتقدم الحواضر الإسلامية والمدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق ومدن الأندلس وغيرها من حواضر الإسلام، والتي للأسف لا تعرف بشكل سليم ولا كاف في مناهج التاريخ لطلبتنا برغم أننا نغرقهم في تفاصيل تاريخ الفراعنة والرومان والصين وغيرها من الحضارات البائدة!
ومع ازدهار العلوم والعمران تم نشر الحرية بين الشعوب بالتحرر من هيمنة الأصنام والأوثان والآلهة المزيفة وفتح الطريق لهم للإيمان بالخالق المدبر وهو الله عز وجل، ومن أبى الإيمان بالله عز وجل ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقد تم تحريرهم من طغيان هؤلاء الآلهة الباطلة وأتباعهم من الظلمة والطواغيت.
لقد تم تشويه مفهوم العبادة عند جماهير المسلمين بسبب الجهل والتجهيل بمفهوم العبادة، وبسبب الجهد الدؤوب من أعداء الإسلام لترويج ثقافة قصر مفهوم العبادة على الشعائر والطقوس تحت شعارات أن الدين والعبادة قضية شخصية وفردية، وتشجيع الطرق الصوفية ومناسباتها المبتدعة كتعبير عن العبادة والالتزام، ولذلك يحرص عدد من السفراء الغربيين على حضور هذه الموالد والحضرات الصوفية اليوم كما كان الاستعمار سابقاً يدعم الطرق الصوفية التي تتجاوب مع رغباته بتحريم الجهاد والمقاومة وتأمر بالرضوخ والرضى بالاستعمار والاحتلال.
وحين اختل مفهوم العبادة الصحيح في الإسلام وأبعدت العبادة بمفهومها الشامل وهو فعل ما يحبه الله عز وجل، تم التفريط في مصالح الأمة وتم تقديم الرغبات الشخصية والضيقة على المصالح العامة وتم التهاون في حراسة الثروات والخيرات وتم تقديم الفاسدين وإبعاد المصلحين، وبذلك ضاعت الدنيا وضاع الدين، ولذلك تحقيق الغاية من وجود الكون بتحقيق العبادة بشكلها الصحيح وشموليتها المستغرقة لكل مناشط الحياة لله عز وجل هو الكفيل بتحقيق الإصلاح والعمران والاستخلاف في الأرض.