رحل عن دنيانا الفانية في الشهور الأخيرة عدد من العلماء الأجلاء في عدد من دول العالم، وفي الأردن شهدنا مؤخرا وفاة عدد من العلماء منهم الشيخ محمد إبراهيم شقرة، والشيخ صالح طه أبو إسلام، والشيخ محمد موسى نصر، والشيخ إبراهيم العلامات، والشيخ أبو قتيبة محمد عبد العزيز، رحمهم الله جميعاً، ومعلوم أن فقد العلماء مصيبة عظيمة تضعف قوة الأمة والمجتمع.
فقد روى الشيخان البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
وفي زماننا هذا فإن مصيبة فقد العلماء تتضاعف، نظرًا لإقصاء كثير من العلماء الأحياء عن التواصل مع عموم المسلمين عبر المنع من الخطابة والحجب عن شاشات الفضائيات، أو التضييق على كليات الشريعة، أو تغييبهم في السجون ظلماً وعدواناً، والله المستعان.
ومصيبةُ فقد العلماء تتضح بمعرفة دور العلماء في الأمة والمجتمع، فالعلماء هم الشمس للناس، فهم ينشرون بينهم العلم والمعرفة ويحاربون الجهل والخرافة، ويدلّونهم على الحق والنور والتوحيد، ويحذّرونهم من الباطل والظلام والشرك، والعلماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدلّون على الخير، وينتفع بتعليمهم وتذكيرهم كل الكائنات، لأن العلماء يرشدون الناس لحسن التعامل مع جميع المخلوقات والكائنات، وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير" رواه الترمذي وصحّحه الألباني.
ومِن هنا فإن فقد العلماء بالموت أو التغييب مؤشر خطير على خلل كبير سيصيب المجتمع، حيث أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس سيتخذون رؤساء جهّالا يضلّونهم!
وهذا هو الحاصل اليوم فحين أقصي العلماء الربانيون تم ملء الفراغ في وسائل الإعلام -على وجه الخصوص- من المفتونين والمنحرفين الباحثين عن مصالحهم الشخصية أو ممن يعاني من وطأة الهزيمة النفسية فأخذ يطوع الدين ليرضي عنه المنتصر الغازي!
هذا الحال المائل استدعى تدخل الأزهر في مصر لمنع هؤلاء من الإفتاء العام على الفضائيات بسبب فتاواهم الشاذة، وكذلك قام الأزهر برفع قضايا على عدد من المذيعين الذين خاضوا في أمور الدين بجهل وتسببوا بتشويش أفكار الناس في تنفيذٍ لأجندات تقصد محاربة الإسلام من داخله، عبر بث الشبهات والتشكيكات وتشويه صورة العلماء وتلميع بعض المنحرفين وتصديرهم، وهذا يتسبب بانحراف التدين وانكماشه، والذي يولد موجات الإلحاد والإدمان والتفكك الأسرى والتفلّت والإباحية وتفشي الرشوة والفساد، وهي ظواهر بدأت تطفو على السطح.
ولا يقتصر خطر فقد العلماء بالموت أو الإقصاء على تصدر هؤلاء الباحثين عن الهوى والشهرة أو على أصحاب الأجندات المعادية للدين، بل إن غياب العلماء يفتح الباب واسعاً أمام أفكار الغلو والتطرف التي تدغدغ عواطف الشباب وتلهب حماس الناس الغاضبة من الظلم الواقع على الإسلام والمسلمين في شتى ربوع العالم.
وقد أثبت الواقع أن العلماء الصادقين كانوا هم صمام الأمان لصدّ خطر الغلو والتطرف، فكل بيئة وجد فيها العلماء وكانت لهم حرية التعليم والتربية كانت أقل تأثراً بأفكار الغلو والتطرف والإرهاب، ولنا في نموذج جيش الإسلام في الغوطة بدمشق دليل على ذلك، فلما كان الشيخ زهران علوش، رحمه الله، هو رئيس الجيش وكان هو من العلماء الذين يدركون بعمق خطر فكر التكفير والغلو، فقد قام بتحصين أفراد جيشه من فكر الغلو والتكفير برغم شدة المحنة التي تعرضت لها الغوطة ولا تزال -فرج الله عنها- وسار على منهجه أنصاره من بعده، وأيضاً بسبب امتلاكه العلم لم يسمح للدواعش بالتسلل للغوطة، وحاربهم بحزم مما أنقذ الغوطة من خياناتهم وطعنهم ظهر الثورة كما حدث منهم مراراً في مناطق أخرى عديدة.
والواجب على أصحاب القرار تدارك الأمر بتعظيم شأن العلماء وإنزالهم مكانهم اللائق ورفع العوائق أمام تبليغهم للعلم والتواصل مع عموم الناس لترسيخ الاستقرار وتعميم نور العلم ومحاربة الأفكار الهدامة قبل فوات الوقت!
وأمام هذا الخطر بفقدان العلماء الواجب فإن على كل مخلص لربه ودينه أن يسارع للاستفادة من العلماء الأحياء بتتبّع دروسهم وخطبهم ووصاياهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والحرص على الاستفادة من تراث العلماء الراحلين بالسماع والمشاهدة والقراءة لما بثوه من علم ومعرفة، ومن نِعم الله علينا أن سبل ذلك أصبحت بغاية السهولة.
وهذا التواصل مع العلماء والنهل من علومهم هو السبيل لتجاوز الفتن العصرية المتكاثرة والتصدي للأفكار المنحرفة المشوهة للإسلام إما بالغلو والتطرف والتكفير والتفجير، أو تحريف الإسلام وتطويعه للرؤى العلمانية والحداثية المنفلتة.
وأخيراً؛ فإن إقبال جماهير الناس على تشييع جنائز العلماء لهو من علامات الخير في الأمة والمجتمع ونريد أن يكون الإقبال عليهم وعلى التعلم منهم في حياتهم مثل ذلك وأكبر، وأن تستمر تلك العلاقة بعد وفاتهم بالإقبال على تراثهم، وبذلك تسير أمتنا على نهج سليم وصراط مستقيم يصل بها لتحقيق أمر الله عز وجل واستحقاق نصره ومعونته بإذنه سبحانه وتعالى.
فقد العلماء مصيبة عظيمة
2018/03/01
الرابط المختصر
Image