"فماذا بعد الحق إلاّ الضلال"؟

الرابط المختصر
Image
"فماذا بعد الحق إلاّ الضلال"؟

هذا جزء من قوله تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تُصرفون" (يونس: 32)، تكررت كلمة الحق كثيرا في القرآن الكريم، وشملت معاني عديدة من أجلّها أن الحق من أسماء الله عز وجل، وأن القرآن الكريم ورسالة التوحيد والعدل هما الحق، وتناقض الحق والباطل مفهوم مركزي في القرآن والإسلام دلّت عليه آيات عديدة منها قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كَرِه المشركون" (الصف: 9)، وقوله عز وجل: "ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب" (التوبة: 29)، ومن هنا جاء الأمر الرباني الصريح بالتمسك بالحق دوماً، فقال تعالى مخاطباً نبيّه وأتباعه من بعده: "فتوكل على الله إنك على الحق المبين" (النمل: 79).
وهذا التقابل بين الحق والباطل هو الحقيقة التي يحاول الشيطان وأعوانه إخفاءها تحت دعاوى شتى من قبيل تعدد الحق! ونسبية الحقيقة! وأنه لا يملك أحد الحقيقة المطلقة! وشعارات أخرى براقة، لكنها تتناقض مع الحق والعدل والمنطق والعقل!
فالحق والعدل والمنطق والعقل تمنع من جمع النقيضين، أو رفعهما!! فكيف يكون الاحتلال والإجرام والاستيطان والعدوان اليهودي لفلسطين حقاً، ويكون جهاد ومقاومة وصمود أهل فلسطين وجنود الأقصى حقاً على نفس المستوى؟! وكيف يكون القصف بالبراميل والكيماوي من بشار وروسيا وجرائم الميلشيات الشيعية ضد الشعب السوري حقاً؟! وهل تخاذل العالم وتواطؤ مجلس الأمن عن نصرة الضعفاء والمظلومين في فلسطين وسوريا سوى تطبيق لهذه الفرية الظالمة والباطلة؟!
وقد نقل لنا الإمام القرطبي موقف علماء الإسلام حول مستويات علاقة الحق والباطل، فقال عند تفسير آية يونس: "قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد.. وذلك بخلاف مسائل الفروع"، ولذلك الحق واحد لا يتعدد في الأصول كوجود الله عز وجل وخلقه وتدبيره للكون وتفرّده بحق الطاعة والعبادة، والإيمان ببقية أركان الإيمان، وأن الصدق والأمانة والعدل حق وأن الكذب والغش والظلم باطل وهكذا، وأيضا سنن الله عز وجل في الكون من أن الزواج بين الرجل والمرأة سبيل بقاء الجنس البشري، وأن النار تحرق، وأن الماء ينبت الزرع، وأن الاثنين أكبر من الواحد، فلا مجال في هذه القضايا لتعدد الحق أو نسبيتها، وإلاّ لعمت الفوضى والدمار حياة البشرية.
ولكن هناك نوع آخر من التقابل بين الحق والباطل يكون الحق فيه واحدا، إلا من زلّ عن الحق فيه بغير قصد، كمن يريد الحق ولكنه لم يهتدِ إليه فيكون حينها مخطئاً لا مبطلاً، كمن أخطأ من العلماء في اجتهاده فخالف نصاً صريحاً غاب عنه، أو طبيب في علاجه فمات مريضه، أو مهندس في تخطيطه فتهدّم بنيانه، فهؤلاء وقعوا في الباطل برغم عدم القصد ولا يصح القول بأنهم أصابوا الحق!!
ويبقى عندنا تعدد مقبول في القضايا الفرعية كتعدد أفهام العلماء في الاجتهاد والقياس وتعدد تصميمات المهندسين وتعدد أذواق الناس في الطعام وتعدد طرق العلاج العلمية، بشرط أن لا تتناقض مع الأصول الحقة والثابتة.
إن المروّجين لفرية تعدد الحق أو نسبية الحقيقة أو عدم احتكارها يقعون في نقيض قصدهم ومرادهم، إذ لو تعدد الحق وكان نسبياً فلماذا تحاربون الإرهاب؟ وتنظيماتٍ كداعش؟ وجشع التجار؟ وفساد الحكومات؟ وتجارة الدعارة والبشر والمخدرات؟ أليس الحق متعددا ونسبياً؟؟
أصحاب هذه الفرية "تعدد الحقيقة ونسبيتها" يناصرون انتشار الشذوذ واعتباره تنوعا واختلافا مقبولا! ويدعون لحق الردة والإلحاد بحجة تعدد الحقيقة، فما هذا التناقض؟! ولماذا لا تتعدد عندهم الحقيقة وتصبح نسبية مع تلك الفواحش والجرائم أيضاً؟؟
لقدعانت البشرية في تاريخها من الظلم والطغيان بسبب احتكار الحقيقة من قبل بعض المبطلين حيث أخبرنا القرآن الكريم عن مجزرة أهل الأخدود الذين رفضوا عبادة الملك الظالم، وأخبرنا عن استعباد فرعون لليهود وعن سعي اليهود قتل عيسى عليه السلام، وأخبرنا التاريخ عن معاناة أوروبا الكبيرة مع الكنيسة في قرونها المظلمة بسبب احتكار الأخيرة للحقيقة مما تسبب في مجازر بشعة بحق العلماء والمخالفين فجّرت الثورة الفرنسية ضد هيمنة الكنيسة.
لكن القرآن الكريم عالج هذه المشكلة بحق وعدل فأقر بحقيقة تفرد الحق في الأصول، لكن أبطل القهر والظلم والعدوان بهذه الذريعة، ولذلك لم يعرف الإسلام إجبار الآخرين على قبوله، فعاش الكثير منهم في ظل دولة الإسلام طيلة تاريخها ولليوم، ولمّا قامت جرائم محاكم التفتيش الكاثوليكية في الأندلس هرب اليهود مع المسلمين للدولة العثمانية!
إن فرية تعدد الحق أو نسبيته أو عدم احتكار الحقيقة في حقيقتها دعوة باطلة وظالمة تساوي بين الحق والباطل، والعقل والجنون، والخير والشر، وتبطل دين الناس بجعل الإيمان والكفر سواء، والمعروف والمنكر متماثلين، وتبطل دنيا الناس فيصبح النظام كالفوضى، والصواب كالخطأ، والقانون كاللاقانون!
إن إلغاء مصدرية الحق الرباني هو لب الصراع اليوم بين الإسلام وسائر الأفكار والفلسفات العلمانية التي لا حياة لها بين المسلمين إلا بإقصاء حكم الله عز وجل وكِتابه وشريعته عن بيان الحق والباطل تجاه العقائد والأفكار والسلوك والمعاملات والأشياء.
وختاماً؛ ما أصدق بصيرة أبي إسحاق الشيرازي الشافعي حين استشرف مآل دعوى تصويب كل الأقوال المتعارضة وهو يطابق حال دعاة هذه الفرية اليوم، فقال: "من يصوب المجتهدين -أي جميعا على تناقضهم- هذا أوّله سفسطة وآخره زندقة".