يقول الله تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تُصرفون" (يونس: 32)، في هذه الآية الكريمة يقرر الله تبارك وتعالى الحقيقة المطلقة بكل وضوح أن الله عز وجل هو الرب الخالق لهذا الوجود الذي نعلمه والذي نجهله، وهذه الحقيقة هي الحق الذي لا مراء فيه، والحقيقة التي ما سواها هو عين الضلال، هكذا بكل اختصار.
وهذه الحقيقة المطلقة هي مدار الصراع اليوم بين أتباع الحق وأتباع الضلال بكل صنوفه، فأتباع الحق سبحانه وتعالى يؤمنون بأن الله عز وجل هو الذي خلق الوجود ويملكه، وهو صاحب الحق في الأمر والنهي والطاعة والعبادة، على جميع المخلوقات، وهذا هو جوهر آيات سورة الناس "قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس" (الناس: 1-3)، ويؤمنون أن الحق هو ما بيّنه الله عز وجل في كتابه الخاتم القرآن الكريم من بيان حقيقة الوجود وكيف خلقه الله عز وجل، ومن العقيدة والإيمان الصحيح الواجب على بني البشر التصديق بها والعمل بمقتضاها من تطبيق الشريعة الإسلامية.
ويؤمنون بأن الله عز وجل اصطفى من الناس رسلاً وأنبياء بلغوا عن الله عز وجل وحيه وأن خاتم هؤلاء الرسل والأنبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اتّباعه واجب على إنسان وأن ما جاء به من الوحي بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة هو الحق الذي يسعد الناس ويضمن سلامتهم في الدنيا والآخرة.
وفي مقابل اتباع الحق عز وجل وجدت طوائف وملل شتي إما انكرت أن الله عز وجل هو الخالق والرب لهذا الكون من عبدة الآلهة الوثنية والآلهة الوهمية، أو جعلت لله شريكاً في الخلق والملك، أو أنكرت أن يكون الوجود والكون مخلوقا من رب خالق عظيم كدعاة الإلحاد وخرافة العشوائية والفوضى، في تكذيب صريح لقوله تعالي: "هل من خالق غير الله" (فاطر: 3).
وفي مقابل اتّباع الحق سبحانه وتعالى فئام من الناس تنكر تفرد الله عز وجل بالأمر والطاعة والحكم والعبادة في صدام واضح مع كثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه" (يوسف: 40).
ومن هنا فإن من أنكر خلق الله عز وجل لهذا الكون أو أشرك معه في خلقه وتدبيره غيره فإنه لا ينقاد ويستسلم لأمر الله عز وجل في إقامة الحق ونصرة العدل والتزام الصراط المستقيم في أقواله وأفعاله.
ويتجسد ذلك أولاً في وقوعه في الشرك بالله عز وجل الذي هو في ميزان القرآن الكريم "إن الشرك لظلم عظيم" (لقمان: 13)، من خلال إنكار الحقيقة المطلقة من كون الله عز وجل هو الخالق المنفرد بالخلق.
ثم يتجسد ذلك ثانياً باتخاذ آلهة باطلة تُعبد من دون الله عز وجل "قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون" (الكافرون: 1-2).
ثم يتجسد ذلك ثالثاً في الإعراض عن تحكيم شريعة رب العالمين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" (المائدة: 42)، ومن هذا الإعراض عن تطبيق شرع الله تنتج جميع الشرور في العالم وتغيب العدالة والرحمة وتشيع المظالم والقسوة.
ولعل واقعنا اليوم أكبر شاهد على انتشار الباطل والظلم والقسوة حين غابت شمس الإسلام عن العالم، فها هي العلمانية تقود العالم براية الرأسمالية والليبرالية واليسارية منذ عدة عقود، فماذا جلبت للبشرية؟
جلبت لهم الحروب العالمية التي قضت على عشرات الملايين من البشر، فضلاً عن الثورات التي قامت ضد الإقطاع والاستبداد في فرنسا وروسيا والصين وغيرها فسفكت دماء مئات الملايين من الأبرياء، ولا تزال الحروب تشتعل في العالم بضراوة، لأن الحروب هي مصدر ربح الطغاة من أصحاب مصانع السلاح في العالمين الغربي والشرقي، فضلاً عن تجار سرقة ونهب الثروات تحت ستار دخان القذائف والصواريخ!
قامت عصبة الأمم ولحقتها الأمم المتحدة، ولم تحصل الشعوب المضطهدة على حقوقها ولا استرجعت خيراتها وثرواتها، وبعد أن كانت تستعمر بالسلاح والذخيرة والدرك، أصبحت تستعمر بالاتفاقيات والخبراء والمستشارين.
عقود مرت تلو عقود فهل عمّ السلام؟ وراجت الطمأنينة؟ هل انتهت المشاكل والنزاعات؟ هل سعدت البشرية؟
الجواب: كلا، والسبب أن كل هذا لم يقم على أساس الحق والعدل بالإيمان بالله عز وجل أولاً، ثم التزام أمر الحق سبحانه وتعالى بتطبيق الشريعة الإسلامية، التي لما حكمت العالم عرف العالم طعم الراحة والأمان، وهي الحقيقة التي يحاول الكثير من الأشقياء إنكارها، لكنهم يفشلون وتظهر مجدداً لتكشف زيفهم وضلالهم.
وها هي مجاعة مضايا تسقط كل الأقنعة الكاذبة لتظهر حقيقة الظلم والقسوة والفساد التي تحكم العالم وتديره، فمن تستروا عقودا طويلة خلف شعارات وأقنعة المقاومة والإسلام ونصرة المستضعفين هم من يمارسون الظلم بأبشع صوره حتى مات الناس من الجوع، وليست هذه منهم سقطة أو غلطة، بل هي منهج ثابت لهم، فها هي تعز في اليمن تشارك مضايا في الحصار والتجويع ومنع الدواء، وكذلك دير الزو وغيرها، وفي العراق أيضاً مدن السنة محاصرة ومجوّعة ومهدمة، ومن قبل حاصر هؤلاء الطائفيون مخيمات الفلسطينيين في لبنان سنة 1985 وجوّعوهم وقتلوهم وأبادوهم، وحين استنجدوا بالعقلاء المفترضين كالعلامة حسين فضل الله، أنجدهم بفتوى جواز أكل لحم القطط!! كما يحدث اليوم تماماً، "أتواصوا به بل هم قوم طاغون" (الذاريات: 51).
ولقد أبدع الإعلامي نديم قطيش في تعرية هذا الباطل المتستر بالإسلام والجهاد والمقاومة، في حلقاته عن مضايا، حيث كشف جريمتهم الأخرى بحق مضايا بخلاف التجويع والقتل والحصار، وهي جريمة التبرير والتسويغ للحصار بعد محاولة الإنكار وإلقاء المسؤولية على الأطراف الأخرى، وهو ذات الموقف الأعوج الذي تبناه البعض في نصرة مضايا، فخرج بوقفات يندد فيها بالحصار ويشتم النظام العالمي ولم يشر للقاتل والمجرم الطائفي الحقيقي! أو كذلك الكاتب الذي أدار ظهره للمجرم والقاتل الطائفي وأخذ يوجه تنديده واستنكاره للثوار المدافعين عن مضايا!!
مضايا كشفت نفاق النظام العالمي الذي تدخل بفعالية حين خشي على السلاح الكيماوي أن يؤذي إسرائيل بشكل غير مباشر، لكن حين بقي هذا السلاح يفتك بالسوريين لم يكن هناك أي انزعاج، وفهم السوريون حقيقة الخط الأحمر لأوباما أنه خط أحمر بعدم تضرر إسرائيل من الكيماوي وليس عدم قتل السوريين به، هذا النظام الذي يتحرك من أجل أحجار تدمر ولا يتحرك من أجل أرواح مضايا!
ولقد كشف فيلم "ملف أمينة" والذي أخرجته المخرجة الكندية صوفي دراسبي، ويحكي قصة فتاة سورية لها مدونة باسمها "أمينة عراف"، كانت تنشر فيها الكثير من أخبار وأحداث الثورة السورية التي تشارك فيها وتدعمها، لكن الاهتمام بمدونة أمينة من بين كل مدونات الفتيات السوريات لدرجة تنفيذ فيلم عنها كان لأنها قدمت نفسها للعالم على أنها فتاة سورية عاشت مدة في أمريكا، إلا أن المهم في هوية أمينة هو أنها كانت تصرّح بأنها "شاذة جنسياً"، فأصبح لها متابعون في الغرب بعشرات الآلاف ومحط أنظار الإعلام، ليس لأنها سورية تعاني بل لأنها شاذة تعاني!!
وقد تبين ذلك من خلال اهتمام ساندرا وهي شابة فرنسية مقيمة بكندا بأمينة، فأصبحت تتواصل معها يومياً ولمدة طويلة، باعتبار أمينة ضحية مجتمع ذكوري، لكن أمينة اختفت فجأة من العالم الأزرق، ولم يعرف هل قضى عليها النظام وأزلامه! وهنا بدأت ساندرا تبحث عنها في كل مكان، حتى اتضحت الحقيقة أن أمينة شخصية وهمية لا حقيقة لها، وأن أمينة في الحقيقة رجل أمريكي اخترع شخصية أمينة "الشاذة"، لأنه يعرف أن الإعلام الغربي لن يهتم بآلالف الفتيات السوريات، لكن شذوذ أمينة سيكون موضع اهتمام وعناية! وفعلاً هذا ما حدث.
ولم تكد مضايا وضحاياها يملؤون الأخبار، حتى زاحمتها أخبار فجائع وفضائع مدينة الرمادي التي تتعرض لهجوم طائفي بربري من الحشد الشيعي في العراق، حيث دمرت المساجد وقتل الأبرياء ويأمر الناس بالهجرة من بيوتهم وإلا كان القتل والحرق مآلهم، ويستصرخ الأبرياء المساكين من ينقذهم فلا يكون الجواب إلا رجع الصدى! ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله عز وجل أن يعجل بالفرج من عنده.
هذا النظام العالمي الذي لا يلتزم الحق سيكون نصيراً قوياً للباطل في سياساته ومواقفه، كما رأينا في قصة أمينة، التي هي رمز لكثير من أنواع الباطل الذي يلقى عناية ورواجا لأنه باطل، فيما الملايين من أهل الحق الأبرياء والضعفاء والمسالمين الذين يشكلون الأغلبية لا قيمة لهم ولا اهتمام ولا تغطية إعلامية، كما هو حال ضحايا مضايا، أو الرمادي أو إجرام اليهود في فلسطين طيلة عقود ماضية "فماذا بعد الحق إلا الضلال".
"فماذا بعد الحق إلا الضلال"
2016/01/01
الرابط المختصر
Image