فوكوياما يحذر من تفكك المجتمع!

الرابط المختصر
Image
فوكوياما يحذر من تفكك المجتمع!

رغم الشهرة الواسعة التي حصل عليها عالم الاجتماع والمفكر الأمريكي أستاذ السياسات العامة بجامعة جورج ميسن فرنسيس فوموياما بعد نظريته " نهاية التاريخ " التي تراجع عنها بعد 10 سنوات، إلا أن كتابه " الانفراط العظيم "( The Great Disruption )  لم يهتم به أحد حتى من علمانيونا !! وسبب عزوف العلمانيين عن هذا الكتاب رغم شدة تعلقهم بكل طروحات فوكوياما أنه في كتابه هذا  يحذر من الانحلال الأخلاقي والقيم الشاذة التي عملت على تدمير المجتمعات الصناعية. ولم أجد من تناول هذا الكتاب باللغة العربية إلا البرفيسور جعفر شيخ إدريس رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة في ثلاثة مقالات بمجلة البيان الإسلامية، يلخص شيخ إدريس رؤية فوكوياما لحال المجتمعات الصناعية بأنها تعاني من تفكك اجتماعي عزا معظمه إلى تفكك في الأسرة، وذكر أن من أسباب تفكك الأسرة اختلاط النساء بالرجال في أماكن العمل، وانتشار حبوب منع الحمل، ونظريات جعلت الإباحية تحرراً، وأن هذا كله أدى إلى ازدياد في معدلات الخيانات الزوجية، ومعدلات الطلاق. وأن تفكك الأسرة أدى إلى سوء تربية الأطفال، ونقص في الثقة في الزعماء السياسيين، ورجال الدين، وازدياد في معدلات الجريمة، وتعاطي المخدرات. قام فوكوياما بإعطاء القارئ في البداية ملخصاً للحقائق الإحصائية لما أسماه " بالانفراط العظيم " في مجال القيم الخلقية كما يلي: - ازدياد في الجريمة وفي تفكك النظام الاجتماعي جعل أواسط المدن في أغنى البلاد على وجه الأرض أماكن لا تكاد تُسكن. - التدهور في علاقات القربى باعتبارها مؤسسة اجتماعية ظلت قائمة منذ أكثر من مئتي عام ازداد زيادة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين في كل البلدان الغربية الصناعية. - انحط معدل الإنجاب في معظم الدول الأوروبية وفي اليابان إلى درجة من الدنو يجعلها عرضة لتناقص عدد سكانها في القرن القادم إذا لم تكن هنالك هجرة إليها. - قلَّ الزواج وقلَّ الإنجاب، وتفاقمت معدلات الطلاق. - بلغت نسبة الأولاد غير الشرعيين الثلث في الولايات المتحدة والنصف في الدول الاسكندنافية. - الثقة في المؤسسات ظلت تتناقص تناقصاً كبيراً لمدة أربعين عاماً، حيث في الخمسينات عبَّر أغلبية الناس في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن ثقتهم في حكوماتهم وفي زملائهم؛ لكن أقلية ضئيلة هي التي عبَّرت عن مثل هذه الثقة في التسعينات. - تغيرت اهتمامات الناس بشؤون بعضهم بعضاً، ومع أنه لا يوجد دليل على تناقص في الصلات بين الناس؛ إلا أن العلاقات بينهم صارت أقل دوماً، وأقل جاذبية، ومع عدد أقل من الناس. ينبه فوكوياما هنا على أن هذا التدهور في العلاقات الاجتماعية في البلدان الغربية الصناعية في الفترة ما بين أواسط الستينات إلى أوائل التسعينات كان مواكباً لانتقالٍ في هذه البلاد من العصر الصناعي إلى العصر الذي سمي بما بعد الصناعي تارة، وبعصر المعلومات أخرى. فهل هناك من علاقة سببية بين ذلك التدهور وهذا التطور؟ وبما أن مظاهر هذا التمزق عامة في كل الدول الغربية الصناعية، وما دامت قد حدثت مجتمعة، وفي فترة زمنية محددة، فإن هذا يدعونا لأن نبحث لها عـن أسباب في أمر أو أمور مشتركة بين هذه الأقطار، لا في الأسباب الخاصة ببعضها دون بعض. و تبعاً لذلك يرى فوكوياما أن السبب الأساس الذي قاد إلى تمزق المجتمعات الغربية كان تحولاً ثقافياً، تحولاً قيمياً تمثل في اشتداد النزعة الفردية، وأن أعظم ما أثرت فيه هذه النزعة الفردية هو العلاقات بين الجنسين، والأسرة على وجه الخصوص. وأن مظاهر ذلك الانفراط أو التمزق نشأت كلها تقريباً عن التفكك الذي أصاب الأسرة. لكنه فوكوياما يعود فيقول: إن القول بأن عزو سبب الانفراط إلى تغير في الثقافة -في القيم- مصادرة على المطلوب؛ إذ إن السؤال ما يزال باقياً: لماذا حدث هذا التغير في القيم في كل هذه البلاد المتقدمة صناعياً، وفي فترة معينة من الزمان؟ ويعترف بأن التحولات القيمية لها أسباب كثيرة؛ لكنه يرى أن أهم أسبابها في هذه الفترة التي يدرسها أمران جاء بهما التطور العلمي، هما: حبوب منع الحمل، والإجهاض الآمن، حيث سمحا - لأول مرة في التاريخ - للنساء بأن يتعاطـين الجنس بلا خوف من العواقب، وأن هذا جعل الذكور يشعرون بالتحرر من القيم التي كانت تفرض عليهم مسؤولية العناية بالنساء اللاتي حملن منهم. ويقول: إن الذي كان يمنع النساء من استبدال زوج يناسبهن مكان الزوج الذي يعشن معه، ويكتشفن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكُنَّ قادرات على الإنفاق على أنفسهن بسبب أنهن لم يكن يعملن، فلما عملت النساء وصارت دخولهن تزداد باطراد وجدن أنه بإمكانهن أن يربين أطفالهن من غير عون من الأزواج، لكن إنجاب الأطفال يقلل من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تنجب المرأة فإما أن لا تعمل إطلاقاً، وإما أن تتوقف عن العمل لفترات، فإذا كانت حريصة على العمل فإنها ستلجأ إلى الحد من الإنجاب، ثم إن قلة الأطفال تزيد بدورها من احتمالات الطلاق؛ لأن الأطفال هم (الرأسمال المشترك) بين الزوجين. ويقول: إن هناك دلائل تجريبية كثيرة تؤكد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب خارج نطاق الزوجية، ثم إن ازدياد معدلات الطلاق يؤدي بدوره إلى عدم ثقة النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلى تأهيل أنفسهن للعمل، كي يضمَنَّ مستقبلهن. ثم إن التحول من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات زاد من فرص النساء في العمل؛ وذلك لأن الأعمال ذوات الرواتب العالية لم تعد تلك التي تحتاج إلى جهد جسدي لا يقوى عليه إلا الرجال، بل تلك التي تحتاج إلى جهد عقلي، كالعمل في مجال الحاسوبات، وهو أمر ينافس فيه النساءُ الرجالَ. ويعدد فوكوياما بعض الآثار السلبية لمظاهر هذا الانفراط العظيم في مجال العلاقات الاجتماعية والخلقية فذكر منها : 1 - إن نصف السكان في أوروبا واليابان ستكون أعمارهم أكثر من خمسين عاماً في غضون العقدين القادمين، وسيؤدي هذا نقص في عدد السكان إضافة إلى نقص في الدخل القومي يؤدي إلى ضعف قوة هذه الأقطار. 2 - وأن الدول الاسكندنافية التي هي الأعلى في نسبة التفكك الأسري، هي الأعلى أيضاً في نسبة التوحد؛ إذ إن خمسين بالمائة من البيوت صارت تتكون من شخص واحد، بل إنه في مدينة أوسلو (عاصمة السويد) بلغت النسبة خمساً وسبعين بالمئة! 3 - أثبتت كثير من الدراسات في الولايات المتحدة أن تأثير الأسرة والأقران على أداء الطلاب أعظم مراراً من كل العوامل التي هي بيد السياسة التعليمية العامة كرواتب المدرسين، وأحجام الفصول الدراسية، والصرف على التسهيلات الطلابية. 4- إن ضرر الجريمة لا يقتصر على من يقع ضحية لها، بل يتعداه إلى المجتمع كله، وذلك أن انتشار الجريمة يقلل من ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعوق أو يحول دون تعاونهم؛ بل إن الجريمة لتؤدي إلى جعل المجتمع مجتمعاً ذرياً يحصر كل إنسان فيه اهتمامه في نفسه وفي أقرب الناس إليه. من ذلك - مثلاً - أن الجيران كانوا يتعاونون جميعاً على تربية أولادهم، وأما الآن - وبعد أن كثر الاعتداء على الأطفال - فإذا رأى والد شخصاً يؤنب ولده فالاحتمال الأقرب أن يتصل بالشرطة. لا يعتقد فوكوياما أن الانفراط هذا أمراً حتَّمه التطور التقني، بل أنه كان بملك الناس أن يتفادوه، لأن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعية تتمثل في أمرين، هما: السياسات العامة "يعني ذلك التي ترسمها وتنفذها الجهات المسؤولة"، والثقافة الشائعة بين المواطنين وما تتضمنه من قيم، ويقول: إن كوريا واليابان وبعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن تقلل من تأثير التطور التقني بسبب اختلاف ثقافاتها عن الثقافة الشائعة في المجتمعات الغربية؛ ولأنه قد حدث مثل هذا الانفراط من قبل في التاريخ الأوروبي والأمريكي، بل وفي اليابان؛ لكنه لم يستمر؛ بل عاد الناس بعده إلى الالتزام بالقيم الضرورية لكل مجتمع إنساني. لقد كان الرأي الشائع عند العلماء، أن القيم أمور نسبية، وأنها تختلف لذلك من ثقافة إلى أخرى، ومن زمان إلى زمان وأن كلاً منها مقبول في إطار الثقافة التي توجد فيها، والزمان أو المكان الذي توجد فيه؛ فلا مجال إذن للحكم عليها بالخيرية أو الشرية، ولا خوف إذن من تغيرها وتبدلها. ثم إنه تبين لبعض علماء الاجتماع والاقتصاد أن الصورة ليست كذلك بل إن هنالك قيماً لا بد منها لكل مجتمع بشري، لأن الناس إذا اجتمعوا فإنما يجتمعون ليتعاونوا على تحقيق مصالحهم؛ لكن هذا التعاون لا يتأتى إلا بالتزام المجتمع ببعض القيم الخلقية: قيم الصدق في القول، والوفاء بالعهد، وحسن تبادل المنافع، وتوفر الثقة التي يقول فوكوياما عنها: إنها بمثابة الشحم الذي يجعل عجلة التجمعات والمنظمات البشرية تجري بطريقة أكثر كفاءة؛ فالقيم هذه ليست - إذن - أموراً نسبية ولا «مجرد قيود تحكمية على الاختيارات الفردية؛ بل هي شرط سابق لأي عمل تعاوني». إنه لا بد لكل مجتمع من نظام سياسي ونظام اقتصادي، لكن النظم السياسية والاقتصادية لا تعمل ولا تنجح إلا في مجتمع متماسك. ولكي يتماسك المجتمع فإنه بحاجة إلى تلك القيم التي صار الاقتصاديون وعلماء الاجتماع يطلقون عليها اسم: الرأسمال الاجتماعي. لأن الناس بطبيعتهم حيوانات اجتماعية، وهم صناع عقلانيون للقيم الحضارية. والفطرة والعقلانية يعين كلاهما على نمو الفضائل العادية مثل: الأمانة، والثقة اللذين يكونان أساس الرأسمال الاجتماعي. ويضرب مثلاً على ذلك بالقيم المتعلقة بالأسرة. لقد حدث تغير هائل بعد الستينات في القيم التي تضبط سلوك الرجال والنساء فيما يتعلق بالأسرة، تغيرٌ كانت نتيجته الإضرار بمصالح الأطفال: فالرجال عزفوا عن تكوين الأسر، والنساء أنجبن بطريقة غير شرعية، والأزواج تفارقوا لأتفه الأسباب. وكثيراً ما تضاربت مصالح الآباء والأبناء؛ فالوقت الذي يُقضى في أخـذ الولد إلى المدرسة أو الملعب، يكون على حساب وقت يُقضى في وظيفة، أو مع صديقة! لكن الوالدين لهم مصلحة فطرية في العناية بأطفالهم، فإذا ما بُيِّن لهم أن سلوكهم هذا يضر بأولادهم، فمن المحتمل أن يغيروا سلوكهم تغييراً يكون فيه عون للأولاد. لكن الوصول إلى مثل هذا القرار العقلاني لا يتأتى آلياً؛ ففي فترة الانفراط العظيم أفرزت الثقافة العامة صوراً إدراكية أعمت الناس عن رؤية الآثار الضارة لسلوكهم حتى على أقرب الناس إليهم؛ فقد كان علماء الاجتماع يقولون لهم: إن النشأة في أسرة مفككة ليس بأضر من النشأة في أسرة متماسكة. بينما كان المختصون في معالجة المشكلات الأسرية يطمئنونهم بأنه من الأفضل للأطفال أن يتفرق الوالدان بدلاً من أن يبقيا متشاكسيْن. هذا وكانت الثقافة العامة تصبُّ على الوالدين وابلاً من الأفكار التي تبرز الجنس بطريقة فاتنة، وتصور الحياة العائلية التقليدية بأنها مرتع للنفاق، والقهر والخبث. إن تغيير هذا كله يحتاج إلى نقاش، وحجج، بل وحروب ثقافية. لكن الكاتب يذكرنا بأن النظام الاجتماعي لا يعاد تكوينه بجهود الأفراد وحدها، بل لا بد من أن تساعد عليه السياسة العامة للدولة، عن طريق قوات الأمن وعن طريق التعليم. وفي الختام يبدو فوكوياما متفائلاً أنه هذا الحال السيئ قد بدأ يزول فعلاً؛ فمعدلات الزيادة فـي الجريمة، والطلاق، والأطفال غير الشرعيين، وفقدان الثقة، بدأت تتباطأ كثيراً في التسعينات، بل إن بعضها انعكس. كما أنه حدث تحول بقدر مائة وثمانين درجة في آراء الأكاديميين بالنسبة للقيم؛ فهم الآن يقولون: إن القيم وتركيب الأسرة تؤثر تأثيراً كبيراً في ما يحدث في المجتمع. إن فترة تعاظم الفردية قد انتهت، وبعض القيم التي محتها فترة الانفراط بدأت تعود، وبدأت أصوات مؤثرة تنادي بضرورة الانضباط في السلوك وتحمل مسؤوليات الأسرة والأطفال. وهذه الأصوات أشد ما تكون مخالفة لما كان يقوله المعالجون النفسيون للناس في الستينات والسبعينات. ويعلق شيخ إدريس على مجمل رؤية فوكوياما أنه كان بإمكان الناس أن يستفيدوا من حبوب منع الحمل مثلاً من غير أن تشجعهم على الإباحية الجنسية، لو كانت قد شاعت بين الناس بأفكار صحيحة بدل بعض الأفكار الضالة التي قُدِّمت للناس باسم بعض العلوم فصدقوها. إن فوكوياما في كتابه هذا يسير على نهج عقلاء المفكرين الغربيين الحريصين على مصالح مجتمعاتهم وأقوامهم، فهل نجد في كتابنا من يعتبر بهؤلاء العقلاء بدلا من السير على طريق أدى بهم إلى الانفراط العظيم!!