في رحاب سورة الكهف وشهر القرآن

الرابط المختصر
Image
في رحاب سورة الكهف وشهر القرآن

سورة الكهف سورة عظيمة فيها من الكنوز والدُّرر والفوائد الشيء الكثير، ومما ورد في السنة النبوية في فضلها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصم من الدجال» رواه مسلم.
وقد خصّها بالدراسة والتأليف الكثير من العلماء والباحثين، منهم الأستاذ أبو الحسن الندوي، الذي جمع مقالاته حول سورة الكهف في كتاب بعنوان "الصراع بين الإيمان والمادية تأملات في سورة الكهف" وصدرت طبعته الأولى سنة 1971م، وهو متاح على شبكة الإنترنت.
وقد ربط الندوي في تأملاته حول سورة الكهف بيْن ما حوته قصص سورة الكهف الأربع (أصحاب الكهف، صاحب الجنتين، موسى والخضر، ذو القرنين) وبين واقعنا المعاصر، بجامع أن هذه القصص الأربع كانت تعبّر عن روح القرآن الذي يرشد الناس للإيمان بالله عز وجل وأنه خالق الكون والأسباب فيه، وأنه أرسل رسلا وأنزل شرائع لتتبع وأن هناك بعثا بعد الموت وحسابا وثوابا وعقابا، وهو الإيمان بعالم الغيب، وكيف أن الحضارة المعاصرة اليوم تميل للإلحاد وتقوم على المادية المفرطة.
ومن جانب آخر أشار الندوي إلى أن في سورة الكهف عصمة من الدجال، وعصرنا الحاضر يكاد يكون يشكل ثقافة التدجيل الممهدة لظهور الدجال، فالكذب والتزوير والخداع والتلبيس وقلب الحقائق ورمي الاتهامات على الأبرياء وتحريف المعاني ونصرة الباطل وخذلان المظلوم وتزييف المفاهيم والتعمية على الإيمان والقرآن وتمجيد الكفر والطغيان وتلميع التافهين والمنحرفين وازدراء العلماء والصالحين ودعم الفجور والفواحش والتضييق على المنابر وحلقات القرآن، كل هذا من لوازم ظهور الدجال الأكبر، الذي يسبقه عشرات الدجاجلة كما في الحديث المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله".
وقد احتوت سورة الكهف على عدد من التوجيهات للمؤمنين يجدر بنا الوقوف مع بعضها ونحن على أعتاب شهر القرآن، شهر رمضان لنستفيد منها بشكل مركّز:
1- قال الله عزوجل: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملا" (الكهف: 7)، تكشف لنا هذه الآية عن طبيعة الدنيا وأنها مزيّنة، وأن هذه الزينة للاختبار والابتلاء، وأن معيار التقويم هو الأحسن عملا، وليس الأكثر عملا مع الخلل والنقص في الإخلاص والإتقان.
ونحن اليوم نعيش في عالم الزينة بكل ما للكلمة من معنى، ويبدو أننا نسير نحو مزيد من الزينة والمادية وأنها في غالبها تصدّ عن سبيل الله عز وجل، وفقط تأمل في مليارات الدولارات التي صرفت على مسلسلات وفوازير رمضان الفضيل هل هي تورث "لعلكم تتقون" في قلوب وضمائر المشاهدين الصائمين أم هي تنوب عن إبليس المصفّد في شهر رمضان؟
والأحسن عملا هو الفائز وهو الناجح وهو الذي يجب على الصائم والصائمة الحرص أن يكونا منهم، وذلك بأن يكون صيامهما وصلاتهما وصدقتهما وعبادتهما وحجابهما خالصاً لله عز وجل أولاً، وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً من خلال تعلّم أحكام العبادات وهيئاتها وأذكارها ومقاصدها والالتزام بها. هكذا يكون النجاح والقبول في رمضان والخروج منه بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات. 
2- قال تعالى: "أم حسبتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ والرقيمِ كانوا من آياتِنا عجباً" (الكهف: 9)، إن سورة الكهف احتوت على أربع قصص قرآنية، وقصص القرآن تأتي لغايات وأهداف "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين" (يوسف: 3) أي أحسن البيان والحقيقة لما وقع وحدث، وحتى يستفيد منها البشر ويهتدوا للحق والخير.
ولذلك فإن التشكيك بقصص القرآن الكريم هو نوع من الاعتداء على قدسيته وصدقه وسلامته، وينبع من الجهل العلماني الذي يرفع راية العلم والعقل لكن سلوكه يناقض ذلك، فالثقافة العلمانية والثقافة الإلحادية تتقبلان الكثير من الحوادث تحت اسم غرائب وعجائب تناقض المعروف من العلم والعقل ولكنها تسارع لرفض قصص القرآن والتي هي حقائق لا تناقض العلم والعقل وإن كانا يحتاران فيها ويتوقفان لعدم الوصول لمعرفته بأدوات مادية حاليا، فكم من أخبار جاءت في القرآن والسنة وتحققت؟ وكم من اكتشافات حديثة صدّقت القرآن والسنة؟ فإنكار بعضهم قصة نجاة يونس عليه السلام من بطن الحوت هو اعتداء على القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية واتّباع للهوى والجهل وليس للعلم والعقل. 
فليست قصص القرآن للتسلي وليست قصصا عجيبة خيالية، بل هي قصص معبرة عن عظمة الرب سبحانه وتعالى وأنه مسبّب الأسباب وخالقها وأن الوجود الذي نعيشه ونعرفه ليس هو كل الحقيقة، فهناك حقائق أخرى موجودة معنا ولم نعرفها للآن، كما أن الكهرباء والاتصالات كانت حقائق علمية موجودة منذ خلق الله عز وجل الكون والأرض ولكن احتاج البشر عدة آلاف من السنين لمعرفتها، فهناك حقائق أخرى سيعرفها الناس لاحقا في الدنيا، وهناك حقائق أخرى سيعرفها الناس في عالم الآخرة ويوم القيامة، ولكنها ستكون معرفة قاسية ومؤلمة للكفار والملاحدة! وقد أشارت قصة أصحاب الكهف لحقيقة البعث والنشور بعد الموت من خلال عودة فِتية الكهف للحياة بعد 309 سنوات.
وقصص القرآن الكريم يشترك بعضها مع قصص وردت في الكتب السماوية السابقة بل وفي بعض المدونات القديمة مثل قصة فتية الكهف الواردة في الكتب السماوية السابقة والكتب التاريخية الرومانية، لكنها في القرآن الكريم تخلو من التناقض أو مصادمة العقل أو الإساءة للرب سبحانه وتعالى أو لأنبيائه وعبادِه الصالحين.
وفي قصة فتيه الكهف إشارة للدور الكبير للشباب في نشر الدعوة الإسلامية والذود عنها، فإيمانهم اندفاعي قوي، ويصدعون بالحق ويعلنون دعوة التوحيد بثبات، وكلما ارتبط تدين الشباب بأهل العلم الثقات كان تدينهم سليما وإيجابيا ونافعا لهم ولأسرهم ومجتمعهم وأمتهم، ومن هنا نفهم تركيز أعداء الأمة على إفساد الشباب بالمخدرات أو الخلاعة والمجون أو الإلحاد والكفر خاصة أن الكثير من الأمم والشعوب يعاني من الموت بسبب قلة المواليد وندرة الشباب فيها.
ومن هنا فإن تأمل المسلم وتدبره لقصص القرآن الكريم في تلاوته في رمضان مصدر عميق للمعرفة والإيمان والتعامل مع الحاضر والمستقبل من خلال التعرف على مرامي هذه القصص والعبر التى ترشد إليها، والسبيل لذلك مراجعة كتب التفسير.
3- قوله جل وعلا: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربّي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهرا ولا تستفتِ فيهم منهم أحدا" (الكهف: 22).
وهذا الجنس من النقاشات والحوارات حول عدد فتية الكهف وكلبهم واسمه ولونه هو الغالب على كثير من حوارات الناس في رمضان وغير رمضان، في جلساتهم وحساباتهم الإلكترونية، فهي تدور في توافه وهوامش لا قيمة لها كلون كلب أهل الكهف، واسم الذئب الذي لم يأكل يوسف عليه السلام، ولأنها لا قيمة لها أسقطها القرآن الكريم، برغم أنه خلّد كلام نملة لأخواتها، وخلّد فعل غراب يدفن ميته، حتى نتعلم التركيز على النافع المفيد وتجنّب الزوائد التي لا ينبني عليها علم وعمل مفيد.
لذلك كان الأمر الرباني بالحفاظ على الوقت والجهد تجاه مضيعات الوقت والفكر "فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهراً" بأن تبيّن ما تعرف من الحق ولا تخوض في جدال في تفاصيل لا دليل عليها أو قضايا لا قيمة لها أو مع أطراف معاندة على جهل.
فلتحرص أيها الصائم على وقتك الثمين في رمضان بالطاعة والأحسن عملا، ودعك من الجدالات على توافه أو مع جهلة معاندين.
4- قوله سبحانه وتعالى: "واصبر نفسك مع الذين يَدْعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فُرطا" (الكهف: 28)، لاحظ في الآية أخي القارئ الكريم الأمر بالصبر وإلزام النفس بالبقاء مع الصالحين والمؤمنين، وعدم الانسياق مع زينة الدنيا والأهواء وأصحاب المعاصي والفواحش وعدم النظر إليهم، هذه الآية تأمر بعدم صرف النظر عن أهل الخير والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا" ولعل من معاني ذلك في حاضرنا اليوم عدم مغادرة متابعة القنوات الفضائية المحافظة والملتزمة لمتابعة قنوات العري والفواحش والمنكرات!
وينبه أبو الحسن الندوي إلى ارتباط هجرة الفتية للكهف بظلم الكفر للمؤمنين، فلولا أن هؤلاء الفتية مُنعوا من حرية الإيمان والحفاظ على أخلاقهم لما هاجروا من بلدهم خفية ولما خافوا أن يكشف خبرهم عند شرائهم للطعام، ولكن هؤلاء الهاربين الخائفين سيكتشفون بعد نومهم/ بعثهم بعد 309 سنوات أن الإيمان انتصر وانتشر، وهذا ما يتكرر في مسيرة الإيمان عبر تاريخ البشرية، فحتى المسلمون في مكة، الذين عانوا الظلم والاضطهاد والتنكيل سرعان ما ينتصرون ويعمّ الإيمان الأرض وغالب ذلك بتقبل الإيمان كما حدث في المدينة المنورة حيث تقبّل أهلها الإيمان دون قتال.
أما الدكتور محمد عبدالله دراز في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) فيؤكد أن انتشار الإسلام في العالم كان فريدا ولا مثيل له في التاريخ، ذلك أن الإسلام في أي بلد أو مجتمع وصله كان ينتشر بين الناس ويصبح هويتهم التي يلتزمون بها، حتى لو تراجعت قوة الإسلام السياسية، ويضرب لذلك مقارنة مع فتوحات الاسكندر المقدوني، الذي سيطر على أجزاء واسعة من العالم، وأقام مدنا عظيمة ولم يسيطر على قلوب الناس وعقولهم، بل حصل العكس حيث تمزقت إمبراطوريته بعد وفاته بـ 20 سنة، ولم يستطع نقل فكر اليونان للعالم، بل تأثرت دولته بثقافات الشعوب الأخرى ونقلتها لليونان باسم الأفلاطونية الحديثة، بينما الإسلام أصبح هوية الشعوب التي سعدت بالاسلام الذي رفع عنها الظلم والحيف من المحتلين أو الإقطاعيين المحليين وازدهرت أحوالهم وتضاعفت خيراتهم ولم يتم نهبها وحرمانهم منها.
وسبب هذا الانتشار عند د. دراز هو البساطة والتلقائية في خطاب القرآن الكريم للناس، فهو يخاطب الشعوب كافة أن البشرية والأنبياء أمة واحدة لرب واحد "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" (الأنبياء: 92)، ويخاطب البشرية بدعوتهم للتفكر والتعقل: كيف يكون هذا الكون العظيم بلا خالق؟ وكيف تكون هذه البشرية بلا إله وملك يحكمها ويرشدها ويرعاها؟ "أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون* أم خَلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون" (الطور: 35-36).
ولليوم لا تزال بساطة الإسلام وفطريته هي التي تحث آلاف الناس للدخول فيه برغم كل حملات التشويه والكراهية التي تنشر ضده، وبرغم كل جهود شيطنة الإسلام وإلصاق الإرهاب به إلا أنه ينتشر ويتوسع في أكثر الأماكن هجوما عليه، وتُقبل عليه مختلف الشرائح، وكأننا نعيش أحوال مكة في بداية البعثة المحمدية.