يعيش المسلمون والعالم أوضاعا صعبة اليوم على كافة الأصعدة ويشعر الجميع بعجز المنظومة المهيمنة اليوم عن تحقيق الأمن والاستقرار والسعادة، ولذلك تتوالى الدراسات عن فشل المنظومات السياسية الدولية في جلب الاستقرار وعجز الفلسفات الاقتصادية عن تحقيق العدالة الاجتماعية وتعاظم الفروق بين شرائح المجتمع الواحد أو أجزاء العالم والاخفاق في مواجهة الكوارث كما هو واقع حاليا مع فايروس الكورونا، وتتكاثر لذلك الدعوات والمطالبات بالإصلاح والتطوير. لكن ما هو الاصلاح والتطوير المطلوب والقادر على إعادة تصويب الأوضاع في العالم ويصلح لكل البشرية؟ الجواب وبكل بساطة هو في سلامة التدين، فالبشرية والعالم تنطبق عليهم جميعا قوانين كونية واحدة مهما تباينت أشكالهم وألوانهم وألسنتهم وأديانهم وثقافاتهم وأحوالهم الاقتصادية فهاهم أمام فايروس كورنا سواسية كأسنان المشط! ولما تساوت البشرية في خضوعها للقوانين الكونية فلا مناص لها من التساوي في القانون الديني "ألا له الخلق والأمر" (الأعراف: ٥٤). إن العقل والمنطق والواقع والتجربة تؤكد أن كل محاولات البشرية في وضع منظومة ذاتية لإدارة الحياة كانت تحقق بعض الخير لبعض البشر مقابل الكثير الكثير من الشر للكثير من البشر! وأدنى مطالعة لتاريخ الإمبراطوريات في الماضي أو القوى الدولية في الحاضر ستكشف عن كثير من الأهوال والكوارث والمأسى لملايين البشر مقابل رخاء حفنة محدودة. وحتى هذه الحفنة المحدودة السعيدة كانت تصاب لاحقا بلعنة الخروج عن شرع الله عز وجل بانتشار الأمراض بسبب فسقهم وفجورهم كظهور الأمراض الجنسية المهلكة نتيجة الزنا والشذوذ تنكب سبيل العفة بالزواج والاخلاص فيه، أو نتيجة أكل المحرمات كالميتة والخنزير والكلاب والحشرات أو الخفاش وما شابه في الصين مما أفرز ظهور فايروس كورنا! أو تحل بهم الأزمات الاقتصادية نتيجة الربا والمعاملات المحرمة كما في أزمة الديون سنة ٢٠٠٨. إن هذا الكون وهذه البشرية لها خالق ومدبر وملك وإله له حق الطاعة والاتباع "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: ٥٦)، فإذا لم تفعل البشرية ذلك كانت النتيجة واضحة "ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" (طه: ١٢٤)، وها هي قطاعات كبيرة من البشرية تعانى الضنك الشديد سواء تحت وطأة الفقر أو الحرب أو الأمراض أو الاضطرابات النفسية ولو كانوا في بحبوحة اقتصادية. والمخرج من كل هذا بالعودة لالتزام دين الله عز وجل "إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: ١٩)، هذا الإسلام الذي كان دين الأنبياء كلهم على مدار تاريخ البشرية ثم ختم بالبعثة المحمدية، والتي نسخت ما قبلها من شرائع نبوية، ولا يصح إيمان لمن لا يتبع الملة المحمدية "ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا" (الفتح: ١٣). وحين استجاب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم تحقق لهم رضى الله عز وجل "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" (الفتح: ١٨)، ثم جعل الله عز وجل من الصحابة رضوان الله عليهم معيارا ومقياسا لصحة التدين فقال تعالى: "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا" (البقرة: ١٣٧). ولما تحقق الصحابة رضوان الله عليهم بالإيمان وسلامة التدين حقق الله عز وجل لهم وعده "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" (النور: ٥٥)، وفعلا في نصف قرن امتدت ظلال الإيمان على نصف كوكب الأرض، ولا زالت رحمة الإسلام وسعادة الإيمان تتوسع وتمتد في القرون التالية، حيث نعمت في ظل الإسلام كثير من الشعوب والأمم. وبقيت قوة الإسلام ورحمته وعدالته وتقدمه تتوالى ما بقي المسلمون مخلصين لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه لأصحابه رضوان الله عليهم، وكلما تخلى بعض المسلمين عن طريقة الصحابة كلما حصل لهم خلل وضعف. وأول انحراف عن منهج التدين السليم للصحابة وقع من الخوارج الذين أثاروا حروبا أهلية زعزعت وحدة المسلمين، ولليوم فإن الجماعات التي تنهج نهج الخوارج بتكفير المسلمين واستحلال دمائهم نموذج بارز لخطر الانحراف عن التدين السليم باتباع نهج الصحابة. ثم جاءت أفكار وافدة تباين تدين الصحابة السليم من أفكار الجهمية والمعتزلة والمؤولة فأضعفت بنية المسلمين خاصة لجوء المعتزلة للقهر والتسلط لفرض أفكارهم الوافدة على المجتمع حيث أجبروا ألاف العلماء على الخضوع لهم بالإكراه وتصدى لهم الإمام أحمد بن حنبل فسجنوه وعذبوه! ومن مظاهر انحراف التدين عن نهج الصحابة ما انتشر من أفكار صوفية دعت للتواكل والكسل والجهل والشرك بدلا من العلم والعمل والجهاد، وكان لذلك أثار سلبية ضخمة حيث ضعفت الحركة العلمية الشرعية والدنيوية وتراجعت القوة الإيجابية الدافعة وترك اتخاذ الأسباب الصحيحة في العلم والعمل وانتشرت الخرافات والشعوذات! ثم كانت الضربة القاضية التي جمدت القوة الإسلامية التي أسسها الصحابة الكرام بسيطرة الفلسفة اليونانية على العلوم الشرعية كعلم العقيدة والأصول، فغرق المسلمون في مجادلات كلامية وثرثرات إنشائية فارغة عطلت حركة الاجتهاد والابداع ورسخت عقلية الجمود والتعصب فانحط المسلمون. والعجيب أن الغرب في نفس اللحظة الزمنية طلق الفلسفة اليونانية ومنطق ارسطو فتحرر من قيوده وانطلق في مدارج العلم والقوة، والغرب فعل ذلك من خلال ما اقتبسه من المسلمين وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية -وريث منهج الصحابة- في نقض الفلسفة اليونانية وهدم المنطق الصورى لارسطو وترسيخ المنهج التجريبي، واليوم يحارب شيخ الإسلام ابن تيمية من انصار فلسفة اليونان من الأشاعرة كما حاربوه وسجنوه قديما وتسببوا بهزيمة الإسلام، بينما باحثي الغرب اليوم يعيدون اكتشاف جوانب عبقريته من جديد! إن المخرج للمسلمين وللبشرية مما هم فيه من شقاء وعناؤ واضح سهل بين، وهو سلامة التدين بالعودة لمنهج الصحابة الكرام ""فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا" (البقرة: ١٣٧). وذلك أن منهج الصحابة رضوان الله عليهم هو سلامة التدين الذين أقام حضارة إسلامية باسقة على أسس العلم والمعرفة الشرعية والدنيوية الصحيحة، والعمل السليم النافع، والقوة الرشيدة العادلة والرحيمة، نعمت فيها كل البشرية بالسعادة والراحة، وبهذا تتحقق لنا سلامة الدنيا ونحوز على سلامة المستقبل في الجنة بإذن الله عز وجل.
في سلامة التدين سلامة الدنيا والمستقبل
2020/02/01
الرابط المختصر
Image