قبض العلماء وتصدر الجهلاء

الرابط المختصر
Image

روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

وهذا الحديث فيه معانٍ اجتماعية كثيرة ونبوءة نبوية عظيمة، ولكن هذا الحديث لا يُفهم لوحده بل ضمن منظومة من الأحاديث النبوية التي تتعلق بحياة ومسار أمة الإسلام وسنن الله عز وجل في الدول والمجتمعات ودين الإسلام.

فمن المعاني في هذا الحديث الجليل أن العلم لا يُقبض/ يرفع من صدور الناس فجأة بل هو نتيجة لقبض/ موت/ غياب/ تغييب العلماء، وأن بغياب وتغييب العلماء وقبضهم يخفت العلم شيئا فشيئا من جهة ويتصدر الجهلاء من جهة أخرى، وينتج عن ذلك وقوع الأمة في الضلال.

ومَن تأمل تاريخ الإسلام وأمة الإسلام سيجد بوضوح تكرر هذه الظاهرة من قبض العلماء بالموت أو السجن وتأثير ذلك على انتشار الضلال في الأمة، فمثلا تهديد كثير من علماء السنة والقبض على الإمام أحمد وسجنه وتعذيبه وموت بعض العلماء تحت التعذيب كان سبب انتشار ضلال المعتزلة بقوة السلطان! ومِن ثم لاحقا انحراف حتى بعض الحنابلة عن عقيدة الإمام أحمد!

والقبض على شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه ثم وفاته في السجن كان سببًا لعودة الانحراف عن منهج السلف مرة أخرى عند متأخري الحنابلة بعد حالة التصحيح التي قام بها ابن تيمية. وهكذا

كلما غاب العلماء بالموت أو السجن أصبح رواج الضلال في أمة الإسلام سهلاً ميسرًا.

ولكن إذا رافق غياب العلماء ترويج الباطل بقوة السلطة والسلطان كما فعل المعتزلة بقيادة ابن أبي دؤاد، أو كما فعل الفاطميون في مصر عبر جهاز داعى الدعاة، أو السفاح عباس الصفوي تجاه الإيرانيين السنة.

وكما أن حالة الضلال تكون بغياب العلماء بالموت أو السجن، فإن حالة الهداية والنهضة والإصلاح تكون على يد العلماء المجددين أيضا فردًا كان أو جماعة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود وصحّحه الألباني.   

وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم بناءً على ما ترشد له هذه المنظومة من الوحي الرباني في حياة الأمم والشعوب من ارتباط الهداية بوجود العلماء ولزوم الضلال من غيابهم، وأن رواج الضلال يزيد من تسلط الجهلاء ودعم السلطة لهم، فسنجد أنفسنا أمام حالة جديدة من تجسيد هذه النبوءة بحذافيرها.

 فإن المتأمل في حال العلماء اليوم يجد أن الموت قد قبض الكثير من كبارهم ولم يأتِ من يعوض مكانهم وفراغهم، ثم نجد أن الكثير من المنابر الإعلامية قد انقبضت عن غالب من تبقى من العلماء والدعاة ممن عرف بسلامة العلم والمنهج والموقف ولهم حضور إعلامي متميز، وقسم آخر من العلماء والدعاة لم تنقبض عنه منابر الإعلام فحسب بل قبض عليه في إقامة جبرية أو زنزانة فكّ الله أسرهم وفرّج عنهم.

ونتج عن حالة غياب وتغييب العلماء والدعاة الصادقين اليوم فراغ، ولأن الطبيعة –بطبيعتها- التي خلقها الله عليه لا تحب الفراغ، خاصة أن جزء من هذا الفراغ مخطط لحدوثه ومستهدف وجوده أصلا، فإن الفراغ الإعلامي للعلماء الصادقين تم ملؤه ولكن في الحقيقة لو بقي فارغا لكان أفضل وأحسن!

فالمتابع اليوم للبرامج الدينية التي تتصدر منابر الإعلام يلحظ بوضوح أن هناك موجة إعلامية عامة وعابرة للدول الإسلامية تهدف في الحقيقة لهدم ثوابت الدين في كثير من المجالات!

إذ أصبح في غالب المنابر الإعلامية لا يسمح بظهور إلا من اشتهر بقلة الدين والعلم وكثرة اتباع الهوى والشهوات والحرص على الشهرة والتقرب من السلطان وأهل الجاه واليسار ورضى العلمانيين والكفار بدلا من الحرص على رضى الله عز وجل ورسوله والمؤمنين!

ولذلك تكون مخرجات عمائم تلك البرامج فتاوى وتصريحات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الفتوى التي تحلّ الخمر والزنا أو تلك التي تحلّ الربا وفتوى تعتبر الراقصة إذا ماتت وهي تسعى لتوفير معيشتها فهي شهيدة وفتوى تحل أكل لحم الكلاب وأخرى تبيح شرب الحشيش والبيرة وزواج غير المسلم من المسلمة، وإباحة النظر للمتبرجات والراقصات، فضلا عن نفي الكفر عن غير المسلمين واعتبار أهل الكتاب مسلمين كالمسلمين!

أما المتسلقون والمتطفلون على البرامج الدينية من العلمانيين والزنادقة فليس لهم من شغل سوى التهوين من قدسية القرآن الكريم وحفظه الرباني أو الطعن في مرجعيته وشموليته لاحتياجات البشرية أو التلاعب والتحريف في أصول التعامل معه لاستنباط الأحكام الشرعية، ومن جهة أخرى الطعن في السنة النبوية وخاصة صحيح البخاري، وتشويه عقائد الإسلام كعقيدة التوحيد والولاء والبراء مثلاً.

أما برامج التوعية والتثقيف والوثائقية فتسعى لتلميع بعض الرموز والطرق الصوفية المعاصرة أو التاريخية باعتبارهم رموز الانفتاح والوسطية والتسامح والتعايش والرقي الروحي!

وبرغم المرجعية العلمانية لهذه المنابر الإعلامية فإنها تروج بكثافة للحضرات والموالد والاحتفالات الصوفية برغم ما تحتويه من دعوة للخرافة والشعوذة والجهل بحجة أنها موروثات شعبية وتقاليد عريقة!

والطريف في تناقض رسائل الإعلام العلماني أنه يروج للإلحاد بوصفه نتاج التطور العلمي ومقتضى التعقل العالي، وفي نفس الوقت يروج للتصوف على أنه الخلاص للبشرية الحائرة والروح القلقة في هذا العالم المادي برغم ارتكازها على الجهل والخرافة! 

أما مقاطع وسائل التواصل الاجتماعي والكتب والمنشورات التي لا خطام لها ولا زمام وهي مباحة لكل تافه وتافهة ونافق ونافقة فهذه يعجز العقل عن تصور مفاسدها أو حصر كوارثها.

وهذا الحال المنحرف في منظومة الإعلام العلماني اليوم ليس وليد الصدفة ولا ما تقتضيه المصالح الوطنية أو نتاج خيارات ديمقراطية شعبية لدافعي الضرائب في الإعلام الرسمي أو رغبات المشاهدين في الإعلام الخاص.

إن هذه الحملة الإعلامية المنظمة ضد الإسلام هي جزء من منظومة سياسات دولية مقصودة لمحاربة الإسلام في الإعلام والتعليم والتشريع والمراكز الإسلامية وحتى المساجد نفسها، وهذه المنظومة هي نتاج جهد قديم ومتواصل لسنوات طويلة تضمنتها دراسات وتقارير وتوصيات لشخصيات ومراكز بحثية محلية وغربية حتى تحولت إلى سياسات للقوى الدولية ونقلت أو فرضت على جهات إقليمية ومحلية، ثم بدأنا نلمس ونعايش تطبيقاتها، وقد أحسن الدكتور عبد الله المديفر في رسالته للدكتوراه والمطبوعة بعنوان "مؤسسة البحث والتطوير (راند) وموقفها من الدعوة الإسلامية" بعرض نموذج وافٍ لأحد أمثلة الجهد الخبيث في حرب الإسلام، والتي لا تقتصر على مركز راند أو مراكز أمريكية أو أوروبية، بل هي حرب يشارك فيها أشخاص وجهات كثر من أديان وأيدولوجيات وبلاد وقارات مختلفة، فضلا عن المنافقين والزنادقة والحاقدين من بنى جلدتنا أو شركاء الأوطان. 

نحن اليوم نعيش تحقق النبوءة النبوية بقبض العلماء ومكر السياسة الدولية بتصدير الجهلاء، ولكن هذا الحال لا يجب الركون له والاستسلام لمتطلباته، بل علينا جميعًا واجب العمل لنصرة الإسلام والدين بالحرص على التعلم السليم للدين من خلال بقية العلماء والدعاة الموجودين من أهل الاستقامة بشكل مباشر أو عبر مطالعة كتبهم وسماع محاضراتهم أو الدورات الإلكترونية، ومن ثم العمل بهذا العلم وتعليمه للأهل والمعارف، والتواصي بالحق وفضح مخططات الأعداء والتواصي بالصبر على مصاعب الطريق أو الصبر عن فتنة المغريات. 

وختامًا؛ فكما أننا نعيش اليوم مرحلة جديدة من الغربة بقبض العلماء وتصدر الجهلاء، فإن أملنا بالله كبير بأن نشهد في أسرع وقت مرحلة جديدة من تجديد الدين وزوال الغربة عبر الممانعة والمدافعة لمكائد الكفار الحاقدين والمنافقين الماكرين.