كيف نتعامل مع حالة الغربة القادمة؟

الرابط المختصر
Image

المطلوب شرعا من المسلم والمسلمة تجاه الأحداث والأقدار المستقبلية هو أداء الواجب المطلوب وليس تحقيق النتائج على أرض الواقع، ولكن يخلط بعض الناس بين أداء الواجب الصحيح وعدم انتظار النتائج، ومثال ذلك وجوب الاحتياط في البناء في البلاد المعرضة للزلازل أو الأعاصير ولو لم تتحقق الوقاية التامة في النهاية، وبين الاستمرار بتكرار أعمال جيدة مع عدم تحقق نتائج مطلوبة لأنها ليست الأعمال الجيدة المناسبة للنتائج المطلوبة! مثل مدافعة الأعداء المعتدين بإقامة حلقات لقراءة صحيح البخاري كما وقع في تاريخنا من بعض المتصوفة، نعم، قراءة وتعلم أحاديث صحيح البخاري أمر مطلوب شرعا وله فضل عظيم عند الله عز وجل، لكنه ليس الأمر الصحيح والواجب القيام به لمدافعة غزو وعدوان الأعداء.

ومدافعة الغربة القادمة والآتية تحتاج إلى القيام بمجموعة من الأعمال الصحيحة والواجبة دون انتظار لتحقق النتائج منها بدفع الغربة كاملا، بل قد تساهم في تأخير موعد حلول الغربة أو تقصير أمد الغربة فلا تطول أو تخفف من حدتها أو تقصر انتشارها، المهم أن تكون الأعمال الصحيحة والمناسبة لذلك، ولعل من أهمها في ظني ما يلي:

١-الحرص البالغ والواعي بالمحافظة -ما أمكن- على كل خير موجود في الأمة من حلقة علم أو كتاب أو عالم أو مدرسة أو مؤسسة أو منبر إعلامي أو ثغر دعوي، فلنحذر من حالة اليأس والقنوط بالتخلي عن الأعمال والجهود الإيجابية، ولنقاومها بالجد في التعلم والتعليم والدعوة والتوجيه، ولنتذكر التوجيه النبوي بالإيجابية بزراعة فسيل النخل ولو قامت القيامة، ولنحذر -في مقابل ذلك- من التهور والاندفاع في الدعوة والتعليم والوعظ والتوجيه وتجاوز المساحات الممكنة والمتاحة مما يؤول للمنع والإيقاف والتعطيل دون فائدة حقيقية، بل هي في كثير من صورها تحميس شيطاني!

٢- الإبداع والتجديد في تسخير أدوات العصر وأفكاره وأنماطه في بث الدعوة والعلم والتربية، وحث الجميع على الانخراط في هذا الجهد المبارك، كلٌّ فيما يحسنه، ولنا في دورات العلم والقراءة عبر برامج الواتساب أو التلغرام وغيرهما نماذج يمكن تقليدها أو تطويرها.

٣- نحتاج لمبادرات خلاّقة تجمع المعرفة التقنية مع أهل المال والعلم لجمع وحفظ العلوم والمعارف، كلنا يدرك أهمية خزائن المخطوطات العالمية لتراثنا الإسلامي وكيف ساهمت في النهضة والصحوة العلمية، ونحن اليوم بحاجة لخزائن تدوم للمستقبل تجمع هذه المخطوطات وما حقق منها وما نتج عنها من دراسات وكتب وشروح صوتية، خاصة مع اندثار مرحلة شريط الكاسيت والتي سجل عليها آلاف الساعات من الدروس ولم تفرغ مكتوبة للآن، والتفريط بهذا سيضيع على الأجيال القادمة جهودا ضخمة وعلوما مهمة، لو حفظت لهم ستوفر لهم الكثير من الأوقات والطاقات التي سيحتاجونها للتقدم أكثر منا في سبيل تمكين الإسلام في الأرض.

٤- ضرورة تسجيل الخبرات والتجارب على صعيد العمل الدعوي والسياسة الشرعية، حتى لا تضيع على الجيل القادم ثمرة خبرة هذه المرحلة ولا يبدؤوا من الصفر.

فمثلا قضية العمل الجماعي وقضية المشاركة السياسية وقضية مركزية العلم الشرعي والعقيدة الصافية والعلاقة مع العلماء والمجتمع والسلطات الحاكمة وفقه الواقع، هذه قضايا استهلكت من شباب الصحوة أعمارا كثيرة وجهودا ضخمة مهدورة، لا يجوز بأي حال من الأحوال ترك الجيل القادم ليدخل متاهتها من جديد.

ليكن لنا في سلفنا من العلماء قدوة حين استخلصوا الخبرة التاريخية والشرعية من تجاربهم في قضية الصدام مع السلطات مثلا والتي لخصها الحافظ ابن حجر في كتابه "تهذيب التهذيب" في ترجمة الحسن بن صالح: "وقولهم كان يرى السيف، يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر".

فنحتاج اليوم لوضع متن أو متون علمية محررة ومدققة في فقه الدعوة وفقه الأولويات وفقه السياسة الشرعية تجمع بين العلم الشرعي المؤصل والعميق والخبرة والوعي بحال العصر وتطوراته وتبدلاته ليجتمع فيها تنقيح وتحقيق المناط بشكل سليم وبناء، لتساهم هذه المتون وشروحها في النهضة العلمية القادمة كما ساهمت المتون العلمية في شتى العلوم في النهضة العلمية الحالية.

٥- أصبح من المحتم واللازم اليوم لإنجاز هذه المشاريع العملية والعلمية كالمتون المقترحة في البند السابق أن تكون نتيجة جهود جماعية ومشتركة، ويكون في ذلك تطبيق عملي لمبدأ الشورى، مما يفتح المجال والباب حقيقيا لابتكار أدوات ووسائل عصرية تحقق ثمرة الشورى على مستوى العلماء وطلبة العلم والنخب الثقافية الملتزمة، مما يحيي هذا الأصل الشرعي العظيم ويكون مبادرة في طرح حلول عصرية لأزمة البشرية في الاستبداد أو الديمقراطية المزيفة.

٦- هذه الأعمال وغيرها مما سيطرحه غيري من الفضلاء والعلماء والمفكرين، لا يمكن أن يتحقق إلا بترسيخ قيمة المسؤولية الفردية والذاتية دون انتظار لمعونة أحد أو مبادرة من الغير، وليكن لنا في الصدّيق رضي الله عنه قدوة ونموذج حين صاح في وجه أزمة الردة عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: أينقص الدين وأنا حي؟

نعم، علينا جميعا التيقظ لمسؤوليتنا الفردية تجاه غربة الدين والإسلام والتصدي لها كلٌّ بحسب قدرته وطاقته كمسلم أو أب وأم أو معلم وإمام وتاجر أو طالب علم وعالم أو مسؤول وحاكم وموظف وهكذا، الكل عليه مسؤولية فردية متى قام بها أنقذ نفسه وساهم في إنقاذ أمته.

هذه بعض الأمور الهامة في ظني للتعامل مع غربة الإسلام القادمة.