الهداية للنور وترك الظلمات هي غاية إنزال الوحي الرباني على نبينا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "الر كتاب أنزلناه إليك لتُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد" (إبراهيم: 1)، ولما استجاب له العرب خرجوا من ظلمات الشقاق والخلاف وعبادة الأوثان والأحجار ووأد البنات وشرب الخمر والزنا وأكل مال الضعيف والتبعية لفارس والروم.
وسرعان ما انحسرت عنهم ظلمة الجهل، وعمّهم نور العلم وانحسرت عنهم ظلمة الضعف والتفتت فأصبحوا قادة الدنيا وحملوا لها مشعل الهداية والنور، فحرروا البشرية من الظلمة والطواغيت، ومنحوا الناس حرياتهم وحقوقهم، وألغوا نظام الطبقات، ونشروا العدل والعلم، وبلّغوهم رسالة التوحيد التي تحطم الآلهة الزائفة وتكشف باطلها وترشدهم لحقيقة الوجود وأنه مِن خلق الله عز وجل وحده وأنه وحده المستحق للحب والطاعة والعبادة.
ولقد كانت هذه الغاية من الخروج من الظلمات إلى النور في غاية الوضوح عند المسلمين الأوائل، ولعل حوار ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس نموذج لتمام هذا الوضوح للغاية الربانية من إنزال القرآن الكريم والبعثة المحمدية الخاتمة، فهذا ربعي يجيب رستم عن سبب مجيئهم، فيقول: "الله ابتعثنا لنُخرج من شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي".
لقد كانت الغاية من الرسالة المحمدية في غاية الوضوح عند جيل الصحابة والتابعين ومَن سار على دربهم، وقد تحقق لهم هذا الوضوح في فهم واستيعاب الغاية أمرين:
الأول أن الوحي الرباني كان في غاية الوضوح، قال تعالى: "وكذلك أنزلناه قرآنا عربياً" (طه: 113)، ووصفه أيضاً بقوله تعالى: "بِلسان عربي مبين" (الشعراء: 195)، وأكد على عربيته بقوله تعالى: "قرآنا عربيا غير ذي عوج" (الزمر: 28) أي معانيه مستقيمة كما استقامت ألفاظه، وبسبب هذا الوضوح في لغة القرآن الكريم والسنة النبوية قام الصحابة الكرام وتابعوهم بنشر الإسلام في ربوع الدنيا وتعميرها بنور الوحي وإخراج البشرية من ضيق الدنيا إلى سعة الإيمان، فأشادوا حضارة باسقة ظللت أرجاء الدنيا بخيرها وعدلها.
والأمر الثاني هو القبول والتسليم والانقياد لمراد الوحي الرباني في الكتاب والسنة، قال تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيَرة من أمرهم ومن يعْصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا" (الأحزاب: 36)، وهذا الانقياد والتسليم للوحي سمة واضحة في حياة الصحابة الكرام، وفي انقياد الصحابة رضوان الله عليهم وهم في الصلاة لأمر الله عز وجل بتحويل القبلة من بيت المقدس لمكة المكرمة مثال ساطع لهذا التسليم للوحي، وهو ما حقق لهم النصر والقوة والانتشار.
وتبيّن للصحابة ومَن بعدهم أهمية الالتزام بالأمر الشرعي وخطورة مخالفته فيما جرى يوم أُحد، حين خالف الرماة الأمر النبوي بعدم ترك مواقعهم مهما حدث من نصر أو هزيمة، فلما خالفوا ذلك وقعت المصيبة بالتفاف المشركين على جيش المسلمين.
بهذه المنهجية من وضوح الفهم عن الوحي الرباني النازل بلغة عربية واضحة والتسليم التام لله عز وجل ورسوله حقق المسلمون التقدم والازدهار ونشر السلم والإسلام وبث العلم والإيمان، ولا يزال الخير الكبير الموجود عند المسلمين هو نتاج فهم الوحي الرباني في القرآن والسنة وتطبيقه والدعوة إليه.
فبرغم الضعف المادي والاقتصادي والعسكري لقطاعات واسعة من المسلمين، إلا أن قوتهم الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية تفوق كثيراً قوة أعدائهم.
فالترابط الاجتماعي بين الأسرة الكبيرة يظل قويا عند المسلمين برغم الفقر والحاجة بينما يُلقى الآباء والأمهات في الطرقات أو دور العجزة أو الوحدة القاتلة في البلاد المتقدمة!
والصبر والثبات والرضا والقناعة والتكافل والتراحم رعاية الأيتام والأرامل برغم الضغوطات والمحن سمة المسلمين حتى في الملاجئ والمنافي بينما الانتحار والاكتئاب يستفحل في غير المسلمين!
والشجاعة والإقدام والبطولة والفداء لا تزال تفرض نفسها على كل أعداء الأمة برغم قلة العتاد وبساطته، فهذه الثورة السورية مُنعت عنها الأسلحة النوعية وقطرت عليها إمدادات الذخائر، لكنها تصدت للنظام المجرم ومن استعان بهم من المليشيات الشيعية الطائفية، ولما لم تجدِ مع قوة الثورة السورية الحرة نفعا سلطوا عليها "داعش"، ومن ثم تدخلت إيران بعسكرها ولم ينفع، فجاءت روسيا بطائراتها التي هدمت المدن ولم تهزم الثورة! ولولا تفرق كلمة الثورة وداعميها وزرع العملاء والأغبياء فيها ممن اغتر بداعش والنصرة على تقلباتها لسجلت الثورة نصراً مبينا.
ولما كان عادة أعداء الأمة محاربتها في ميادين متعددة وتسعى لإضعاف قوتها الدينية أولاً ليسهل عليهم منازلتها عسكرياً ومادياً ثانياً، فقد سلطوا سهامهم على أصول الدين خاصة الوحي الرباني إما بمحاولة إنكاره واجتثاثه أو التلاعب بمعانيه وتوجيهاته، ولذلك تتصاعد اليوم الدعوات المغرضة برغم فشلها وإخفاقها دوماً للطعن في ثبوت الوحي الرباني، وزاد عليها مزايدة العلمانيين الكبار اليوم بالسعي لتصدر مشهد القيادة الدينية التي لا يؤمنون بها أصلا أو يزدرونها وينتقصونها بدعوى مخالفة الدين للعقل، وقد عبر أحد كهنة العلمانيين عن حقيقة هذا النهج الخبيث فقال: طريق لاعقلاني لزرع العقلانية!
والأصل الذي تقوم عليه محاولاتهم المتناقضة والمتعارضة لتطويع الإسلام لأهوائهم وأباطيلهم هو أن الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة غير واضح! ولم يفهم! أو أن معانيه تبدلت وتغيرت في عصرنا! أو أنه لا معنى ثابتا له بل للجميع حق تفسيره بما يشاؤون!
وهذا اتهام صريح للقرآن الكريم بالكذب والخداع حيث وصف نفسه بالوضوح والبيان! وهذا اتهام لأجيال الأمة بالغباء والجهل! وهذا طعن في إنجازات الأمة عبر التاريخ!
إن المحاولات العلمانية الممجوجة والمتكررة والمتناقضة مع بعضها البعض لا هدف لها إلا إرجاع المسلمين إلى الظلمات، فهم عبر تأويلاتهم الباطلة يهدمون أصول الإسلام فلا يقرون أن الله عز وجل هو الخالق بل يؤمنون بالصدفة والانفجار العظيم كسبب لوجود الكون! وهم ينكرون اليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب ووجود غاية للكون ووجود هدف للإنسان بطاعة الرحمن! وهم يرون النبوة نوعا من الخيال أو الإبداع أو الدجل! ولذلك يركزون على نفي وجود حق مطلق يتمثل في القرآن الكريم كلام رب العالمين، ويجعلونه نصاً كسائر النصوص البشرية التي قد يكتبها معتوه! ويساوون بين عبادة الله عز وجل وعبادة أي إله مزيف بدعوى تعدد الحقيقة ونسبيتها!
ولم تقتصر جهود المحاولات العلمانية على ضرب أصول الإسلام بل سلطوا سهامهم أيضاً على روابطه الاجتماعية لتنحل عراها وتتفكك أوصالها، فهم يحاولون هدم الأحكام الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية وهي الباقية من تحكيم الشريعة في حياة المسلمين بشكل جلي، وما نشاهده اليوم من تطاول علماني على أحكام المواريث وتحريم زواج غير المسلم بالمسلمة ورفع سن الزواج وغيرها من متطلبات الرؤية العلمانية للعلاقات الاجتماعية والتي تصدت لها كل المرجعيات الإسلامية من العلماء والمؤسسات كالأزهر ورابطة العالم الإسلامي وروابط العلماء لأنها في حقيقة الأمر إخراج للمسلمين من النور إلى الظلمات.
فها هي نتائج هذه الرؤية العلمانية تتكشف في بلاد الغرب ومن قلدها، فلم يعد للأسرة احترام بعد أن أصبح الشذوذ هو الملاذ للفرار من التسلط الذكوري بزعم النسويات، وأصبح الزواج بالحيوانات قانونيا! ومئات ألوف النساء تُعرض في واجهة المحلات في هولندا للمتعة والفحش! ويعتبر ذلك أحد مصادر الدخل والاقتصاد القومي.
وأصبح تناول المخدرات قانونيا في عدة دول ومدن، بعد استفحال إدمانها وتضخم اقتصاد تهريبها عبر العالم والذي تتورط به جهات عالمية كبرى، ولنتذكر أن حركة طالبان تمكنت من القضاء التام على زراعة المخدرات بأفغانستان ثم بعد إزاحة طالبان عادت زراعة المخدرات مزدهرة في أفغانستان برغم وجود القوات الأمريكية هناك!
أما الدول الأفريقية والآسيوية والتي جارت الإباحية الغربية فقد أرهقتها الأمراض الجنسية ومنعت عنها الأدوية فتضاعف شقاؤها، ثم جاءت المواثيق الدولية لتزيد وتشرعن وتحمى انتشار الفواحش بالقوانين التي تملك الأطفال أجسادهم وتدفعهم للجنس خارج مؤسسة الزواج وتساعدهم على ذلك بتوفير التعليم والأدوات للجنس وتعمل على محاربة الإدانة المجتمعية لسلوك الفحش والشذوذ بعنوان تجريم الوصمة الاجتماعية، لكنها تتنصل منهم حين يقعون فريسة للأمراض الجنسية فلا دور للمؤسسات الدولية في توفير أدوية الأمراض الجنسية بأسعار معقولة كما هي أسعار أدوات الجنس (الأمن).
لابد لأمتنا أن تدرك أن هناك مخططات كبرى تسعى لإخراجها من النور إلى الظلمات من خلال الطعن في المنهج الشرعي لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية والذي عرفته الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل والذي أنتج للبشرية الحضارة الإسلامية الباسقة، ومن خلال محاربة صرف المسلمين عن الالتزام بأحكام وآداب القرآن والسنة والتي عاشوا عليها قرونا طويلة.
لا تخرجونا من النور إلى الظلمات!
2017/10/01
الرابط المختصر
Image