لننتهز الفرصة لمحاربة التطرف

الرابط المختصر
Image
لننتهز الفرصة لمحاربة التطرف

لقد وقى الله عز وجل الأردن من كارثة كبيرة باكتشاف مقر المجموعة المسلحة التي قامت بجريمة الكرك المروعة قبل إكمال مخططها، وإن حالة الرفض والغضب الشعبي العام لهذه الجرائم الإرهابية هي حالة إيجابية يجب العمل على نقلها من حالة غضب طارئة وفزعة ونخوة محمودة إلى حالة وعي مستقر ودائم ينتشر ويتوسع.
إن واقعنا اليوم يشهد الكثير من الأزمات الداخلية والخارجية مما يخلق مناخا من الغضب والكره والرغبة بالانتقام لدى بعض الشباب، ومما يضاعف هذه الرغبة الجهود الضخمة الإعلامية لجماعات التطرف والغلو، التي تملك إمكانات هائلة برغم أنها مطاردة من كل دول العالم فيما يفترض!
هذه المواد الإعلامية المتطرفة التي تدغدغ المشاعر والعواطف وتتلاعب بالعقول والأفكار بجودة الصورة وحماس الأناشيد وقوة الشعارات والهتافات وإطلاق الاتهامات، تستقطب بعض الشباب للتبعية للجماعات الإرهابية بشكل مباشر أو غير مباشر على شكل خلايا نائمة أو ذئاب منفردة.
إن فكر التطرف والإرهاب لقي من الدعم والحماية عبر تقديم حق اللجوء لمفكريه ومنظريه في أوربا وكندا منذ تسعينيات القرن الماضي، كما لقي الحماية في إيران لقادة تنظيم القاعدة عقب أحداث 11/9، مما تسبب في انتشار هذا الفكر وتمدده وتوسع عملياته الإرهابية في دول العالم.
وإذا ثبت اليوم باعترافات قادة القاعدة وداعش (الزرقاوي، أبو حفص الموريتاني، العدناني) تقاطع أجندة القاعدة ونظام الملالي في طهران، وهي العلاقة التي كانت تنفى سابقاً وتوجه لنا سهام التخوين والعمالة حين نحذر منها، فإن المستقبل سيكشف عن ضخامة لاختراق لهذه الجماعات وأن كثيرا من قادتها الفكريين والعسكريين، خاصة في العراق وسوريا، هم من الشيعة واليهود، وإن القصص والوقائع التي يرفض كثير من الناس اليوم تقبلها من  فظائم وفضائح يقوم بها قادة القاعدة والنصرة وداعش في العراق وسوريا وآخرها خيانة حلب من الداخل بمهاجمة الثوار والاستيلاء على سلاحهم ومناطقهم ثم تسليمها للنظام، وهو ما فضحه عدد من المفكرين الداعمين للثورة كالأستاذ مجاهد ديرانية.
لذلك؛ فإن انتهاز فرصة وحالة تكاتف الجميع ضد التطرف للبناء عليها حالة من الوعي الفكري لهو في غاية الأهمية، وهذا يرتكز على ترسيخ عدد من الأفكار والمفاهيم الصحيحة والسليمة على الصعيد الشرعي الديني وعلى الصعيد الفكري والسياسي في عدد من المحاور ومن خلال عدة وسائل، ويمكن الإشارة لذلك في عدة وقفات.
الوقفة الأولى: معلوم أن الشباب الذي ينتهج الغلو والتطرف يعاني من مشكلة في الفهم للدين والإسلام بالشكل الصحيح الذي يدين كل أشكال العدوان على المقدسات والمسلمين الأبرياء ولكنه أيضاً يرشد للعمل الصحيح والسليم لمعالجة هذا الظلم والفساد بما لا يفاقم الظلم والشر والفساد، وهؤلاء الشباب المتطرف بسبب جهله بذلك واتباعه لقيادات غير موثوقة شرعياً ولا موثوقة في فهم الواقع السياسي المعقد فإنه يقع ضحية تنفيذ جرائم إرهابية ضد مجتمعه وأهله دون أي فائدة بل هي ضرر وشر محض.
من هنا فإن المجتمع بعامة والشباب بخاصة بحاجة لثقافة شعبية واسعة تحصنهم من أفكار الغلو والتطرف، فمن المهم ترسيخ أولوية تعلم العلم الشرعي الصحيح من خلال مصادره الموثوقة الرسمية والأهلية، وترسيخ مكانة أهل العلم واحترامهم لقيمة العلم الذي يحملونه "إنما يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر: 28)، ولذلك فإن الدعوات المحلية والعالمية التي تحمّل مسؤولية التطرف والغلو لكليات الشريعة والمساجد والجمعيات الإسلامية هي اتهامات غالبا ما تنبع من أجندات معادية للإسلام نفسه، ولذلك هم يتشاركون مع الغلاة والتكفيريين على مهاجمة العلماء والمؤسسات الإسلامية الرسمية والشعبية، ولذلك لاحِظ توافق الإعلام الداعشي والمتطرف والإعلام العلماني المتطرف في عدة دول إسلامية على مهاجمة العلماء والدعاة ودائرة الإفتاء والأزهر وأمثالها والحركات والجمعيات الإسلامية في توافق عجيب ومريب!
وهذه الاتهامات الباطلة لهدم مكانة العلماء والمؤسسات الدينية الإسلامية هي مما سيفاقم مشكلة التطرف، وقد تبين أن سياسة تجفيف المنابع ضد العلم الشرعي التي تبنتها تونس لم تحمِها من التطرف، بل لقد كانت نسبة الشباب التونسي الملتحق بداعش من أكبر النسب في الدول العربية!
ولذلك يلزم في مجال العلم الشرعي ما يلى:
- دعم وتعزيز مكانة العلم والعلماء الشرعيين وفتح المنابر الإعلامية أمامهم لبث التدين الصحيح والسليم، وتحصين المجتمع من فكر التطرف والغلو.
- زيادة مساحة التربية الإسلامية في المناهج التعليمية وتجويد محتواها وبث ثقافة مقاومة الغلو والتطرف في ثناياها.
- إقامة الندوات والمؤتمرات العلمية المفيدة للخطباء والأئمة ومعلمي التربية الإسلامية وأساتذة الجامعات لتعزير ثقافتهم في مقاومة التطرف والغلو والاستفادة من المتخصصين الشرعيين بذلك من الدول الأخرى.
- حث أساتذة الجامعات وطلبة الدراسات العليا على تفكيك خطاب وفكر التطرف والغلو من خلال أبحاث الترقية والرسائل الجامعية العليا.
- نشر ودعم الكتب المتخصصة بنقد فكر التطرف والغلو وتفنيد شبهاتها لترسيخ ثقافة دائمة ضد موجات التطرف والغلو.
- الاهتمام بطرح الحلول الشرعية الصحيحة لنصرة قضايا المسلمين والدفاع عن مقدساتهم وحماية الأبرياء والمستضعفين.
الوقفة الثانية: تتعلق بمقاومة الجهل بالتاريخ الكارثي والأسود لجماعات التطرف والغلو، حيث أن غالب الشباب المتورط في جرائم إرهابية هم من صغار السن (بحسب المعلومات الأولية لخلية الكرك هم في العشينيات، قاتل السفير الروسي عمره 22 سنة، منفذ عملية الدهس في ألمانيا عمر ٢٤ سنة) وغالبا لا يعرفون التاريخ الكارثي لهذا المسار.
يظن كثير من الشباب أن هذا هو الحل الوحيد أمام حالة العدوان التي تعاني منها الأمة، ولا يعرفون أن هذا الحل جرب عشرات المرات، وفي عشرات الدول، فلم يَنتج عنه إلا مزيد من العدوان على الأمة ومقدساتها ومقدراتها ورجالها ونسائها، هل يعرف الشباب الذي أيدوا قتل السفير الروسي في تركيا أن قتل حاكم خوارزم لمبعوث جنكيز خان زعيم المغول سنة 616هـ كان سبب الكارثة المغولية التي دمرت بلاد الإسلام من خوازم فيما وراء النهر (تشمل أجزاء واسعة من أفغانستان وإيران اليوم) حتى وصلوا بغداد وحلب ودمشق فدمروها! وهل يعلم هؤلاء الشباب الصغار أن الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب مقتل السفير النمساوي!
ماذا يعرف هؤلاء الشباب عن مأساة الصومال مع تنظيم القاعدة؟ وماذا يعرف عن مقتل 200 ألف في الجزائر بسبب جماعات العنف واختراق الأمن الجزائري والفرنسي لها؟
ماذا يعرف هؤلاء الشباب عن التجربة المرة لجماعات العنف في مصر في آخر عقدين من القرن الماضي؟ ماذا يعرفون عن تجاوز تنظيم القاعدة لأميرهم الملا عمر بتنفيذ عملية 11/9 مما تسبب بتدمير إمارة طالبان؟
إن من الواجب اليوم توعية الشباب والمجتمع أن مسار العنف والتطرف قد جرب كثيراً من قبل، وليس فكرة إبداعية وفكرة جديدة وفكرة رائدة.
وإن من المهمات اليوم أن يعي الشباب والمجتمع أن نتائج هذه التجارب دوما كارثية وتجلب الدمار والشر والتضييق على الخير وتقوية أهل الباطل في الداخل والخارج، وقد لخص أحد منظري جماعات العنف، أبو مصعب السوري، ذلك بقوله: " كسبنا معارك كثيرة ولكننا خسرنا الحرب في كل الميادين"!
وممّا يعين على نشر هذه التوعية:
- تخصيص برامج إعلامية تعرّف بالتجارب الكارثية لهذه الجماعات وتجاربها الدموية.
- تضمين إصدارات مكتبة الأسرة بعض الكتب التي تبين فساد هذا المسار فكراً ونتائج.
- التعريف والتنويه بالكتب التي تناولت هذا الجانب في وسائل الإعلام والتواصل.
- حث طلبة الدراسات العليا في قسم العلوم السياسية والتاريخية والشرعية على دراسة تجارب هذه الجماعات وبيان النتائج السلبية المنبثقة عنها.
- إقامة ندوات حوارية مع الشباب في الجامعات حول هذه التجارب المدمرة.
الوقفة الثالثة: هي استثمار واقع الإرهاب القائم في المنطقة في محاربة التطرف والغلو، إذ عندنا واقع إرهابي مجرم في سوريا والعراق يتمثل في داعش والقاعدة والنصرة من جهة، والمليشيات الشيعية والإيرانية والروس من جهة أخرى، لكن كثيرا من الناس والشباب يتعاطف مع  داعش والقاعدة وإرهابها باعتبارها المنقذ من إرهاب الميلشيات الشيعية والروس، وهو الدور الذي يلعبه إعلام داعش والقاعدة مما يولد مناخا موجها للانضمام لهذه الجماعات الإرهابية نصرةً للأبرياء والضعفاء والضحايا!
لكن ليست هذه الحقيقة، فالحقيقة المغيبة هي أن داعش والنصرة تتقاطعان وتتخادمان مع المليشيات الشيعية ونظام الملالي وسلطة بغداد وبشار، إذ جرائم داعش والقاعدة بحق السنة والمسلمين في العراق وسوريا واليمن بقتل قادتهم وعلمائهم وثوارهم ومصادرة سلاحهم وتسليم مناطقهم لاحقاً للمليشيات الشيعية هي من أكبر أسباب تفوق المليشيات الشيعية.
إن كشف حقيقة خيانة داعش والقاعدة واختراقها من قبل الأعداء وتلاعبهم بها بكل الوسائل والإمكانيات، فيلزم تسجيل شهادات الفصائل المقاوِمة في العراق وسوريا لجرائم الإرهابيين على غرار كتاب "الدولة الإسلامية بين الوهم والحقيقة" في العراق لمحمد المنصور، ويلزم التعريف بتجربة جيش الإسلام في غوطة دمشق بقيادة الشيخ زهران علوش وكيف قضى على داعش هناك بينما عجز التحالف الدولى عن ذلك! ويلزم فضح ما جرى في حلب وغيرها من خيانات، ويلزم بيان التمويل والدعم لهذه الجماعات الإرهابية للهروب من سجون المالكي وتسليمهم الموصل وتسليمهم تدمر مرتين، وغير ذلك كثير.
للأسف أن داعش والقاعدة تمتلك أذرعا إعلامية ضخمة تروج أكاذيبها وأباطيلها، وحتى الإعلام الرسمي والحر هو ينقل ويتابع إعلام المتطرفين، بينما فصائل المقاومة والثوار التي هي موضع تخوين وعدوان من داعش والنصرة لا تملك قدرات إعلامية ولا تجد اهتماما إعلاميا بها، بل تعانى من تهميش إعلامي مقصود!
إن نشر ذلك بين الناس والشباب سيكون له فاعلية كبيرة في فض حالة التعاطف معها من قبل الشباب الغاضب، وسيجنب أمتنا خسارة مزيد من الطاقات الصادقة في فخ الإرهاب والتطرف وسيجنب أمتنا كثيراً من العمليات الإرهابية، فانتهزوا الفرصة ولا تضيعوها.
الوقفة الرابعة: مقابل هذا الواقع السلبي لواقع التطرف والغلو في منطقتنا هناك جانب إيجابي لم يحظ بما يستحق من متابعة وتعريف، وهو ترجمة تراجع بعض الشخصيات والجماعات عن مسار العنف كالجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد في مصر مثلاً، حيث تراجعوا عن فكرهم المتطرف والتزموا بالمسار السلمي لحد الآن برغم كل الأزمات السياسية في مصر.
لماذا لا يستفاد من قادة ورموز هؤلاء وغيرهم لمخاطبة الشباب بمخاطر وكوارث العنف والتطرف والتكفير والتفجير، باستضافتهم في ندوات حوارية مع الشباب في الجامعات ومؤتمرات فكرية للمؤثرين والفاعلين من الخطباء والمعلمين والكتاب وبرامج إعلامية لعامة الناس.
وقد أصدرت هذه الجماعات وغيرها عددا كبيرا من الكتب ترسخ مسار السلمية وتناقش تجربتها السابقة لكن كثيرا من الشباب لا يعرف بذلك، ولا يتم استغلالها في الخطط التي توضع لمحاربة انتشار التطرف والإرهاب مع الأسف.
إن انتهاز الفرصة السانحة لمحاربة التطرف والإرهاب والغلو يحتاج مع الإرادة لذلك الوعي الصحيح بالمشكلة والاستثمار الأفضل للجانب الشرعي والفكري في ذلك، وتجاوز الإجراءات التقليدية التي تكلست بفعل الروتين والبيروقراطية من جهة، وتجاوز خرافات المغرضين العلمانيين واليساريين من شاكلة: الإسلام هو المشكلة، هؤلاء نتاج المساجد والأنشطة الدعوية وكليات الشريعة، وغيرها، بينما الوقائع أن هؤلاء نتاج قطيعة مع المساجد وكليات الشريعة والعلماء والخطباء، وغالبهم خريجو كليات غير شرعية كحال خلية الكرك!
انتهزوا الفرصة واحموا شبابنا ووطننا  .