ماء زمزم نبع بالسعي والأخذ بالأسباب!

الرابط المختصر
Image
ماء زمزم نبع بالسعي والأخذ بالأسباب!

مما يمتاز به دين الإسلام على ما عداه من الأديان أن شعائره وعباداته هي بذاتها أصول وقواعد سعادة ونجاح أهله، فلا انفصام في الإسلام بين العبادات والشعائر والعقيدة والقرآن الكريم والحياة والعمل والعمران والفرح والانبساط، بل هي شيء واحد مركب بين الدين والدنيا، ولذلك الإسلام يتناقض تماماً مع العلمانية التي تريد فصل الدين عن الحكم والسياسة أوالحياة كما يتمنى الشيوعيون والملاحدة.
ومن أمثلة تلازم العبادات والعقيدة والقرآن والحياة والسعادة والنجاح قصة نبع بئر زمزم، والتي أصبح الحدث الرئيسي في هذه القصة أحد أركان عبادة الحج الذي هو ركن الإسلام الخامس، قال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" متفق عليه.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل (أي والدته هاجر) وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ}.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا".
فهاجر كانت امرأة مؤمنة وواثقة من عون الله عز وجل ورحمته بها وأنه لا يريد لها ولطفلها المشقة، ولذلك لم تعترض على مكوثها ورضيعها في الصحراء الحارة بلا رفيق أو أنيس وليس حولها حياة، فلا شجر تستظل به أو تأكل منه ولا ماء تشرب منه حين عرفت أن هذا أمر الله عز وجل لزوجها إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام، وقالت كلمة المؤمنة الصادقة: "إذن لا يضيعنا"، وفعلاً لم تجادل هاجر زوجها في ذلك، وجلست ترعى طفلها حتى نفد ما عندها من طعام وشراب وصاح رضيعها من الجوع!
فهل استسلمت هاجر للوساوس؟ أو أخذت تندب حظها أو تعترض على أمر ربها؟ كلا، بل أخذت بالأسباب وهي البحث عن الماء، فنظرت فرأت جبل الصفا أقرب إليها فصعدت عليه لتنظر وتبحث عن ماء أو أناس قريبين أو قافلة سائرة، ولمّا لم تجد ذهبت للجهة المقابلة وصعدت على جبل المروة، تجرى ولعلها حافية على الرمال والصخور الحارة تحت شمس الحامية، وكررت ذلك سبع مرات، لأنها تعرف وتؤمن أن الله عز وجل لن يضيعها وسيرزقها بالماء، ولكنها أيضاً تؤمن وتعرف أن عليها الأخذ بالأسباب حتى تحصل على حفظ الله عز وجل لها ولابنها، وفعلاً بعد أن بذلت السبب في البحث عن الماء، نبع الماء من تحت قدم رضيعها بأمر الله عز وجل.
فمن عقيدة التوحيد التي جاء بها كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الإيمان بأن الله عز وجل وحده خالق الأسباب والمسببات، وأن على المؤمن القيام بالأسباب الصحيحة للوصول للنتائج، ولكن تحقق النتائج هو بإذن الله عز وجل، وقد يكون بطريقة غير متوقعة كما في قصة هاجر وزمزم.
وعقيدة الأخذ بالأسباب الصحيحة مع ربط القلب بخالق الأسباب وهو الله عز وجل هي مما تميز به الإسلام عن غيره من الديانات، التي تأمر أصحابها بأسباب خاطئة، فليس في الإسلام أن المطر ينزل بحرق قرابين، أو خصب الثمار يكون بطقوس غبية، أو أن شفاء مريض يكون بتمتمات سحرية.
ولكن لما انتشر الجهل بالدين والدنيا بين المسلمين قديماً وحديثاً بسبب التصوف المغلوط والكرامات المزورة للأولياء الدجالين، رأينا عودة الأسباب الخاطئة تنتشر بين عوام المسلمين، فراجت سوق المشعوذين والنصابين بين الجاهلات من القرويات والأكاديميات الباحثات عن الإنجاب بوصفات شيطانية وجنونية بدلاً من التداوي بالطرق الصحيحة عند الأطباء المختصين.
ورأينا قادة ونخبا تحرص على رأي قارئي الفنجان والكهّان والمشعوذين، ورأينا الدجالين يخدعون العوام بكرامات مزورة وعجائب مزيفة لتقديم القرابين للقبور والأضرحة والتي أصبحت تدر دخلاً خيالياً على تجار الشعوذة والدجل من المعممين ووكلائهم، وكل هذا من الشرك بعبادة الله عز وجل المتفرد وحده بالخلق والرزق والشفاء والسعادة، كما أن هذا من اتخاذ الوسائل والأسباب الخاطئة التي لا تنتج إلا الفساد والخراب، وأخبرنا الله عز وجل عن خسارة من يأخذ بالأسباب الخاطئة مثل من يستعين بالجن على حماية نفسه بدلاً من الاستعانة بالله عز وجل بدعائه ورجائه والمداومة على الأذكار، فقال تعالى: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا" (الجن: 6)، والرهق التعب والنصب والطغيان والإثم، فزادوهم منها ولم ينفعوهم.  
والأخذ بالأسباب هو أحد المفاهيم القرآنية والإسلامية التي قامت عليها حضارة الإسلام، والتي لا تعود إلا بوجودها، ومن تفحص السيرة النبوية وجد ذلك واضحاً، فالهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة من الأخذ بالأسباب، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على الأخذ بالأسباب برغم أنه سيد المرسلين.
وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم لم تنفك عن الأخذ بالأسباب لتحقيق النصر، ولعل غزوة الخندق وغزوة مؤتة من أكبر الأمثلة على ذلك، وعلى منهج الأخذ بالأسباب سار الصحابة الكرام في إدارة الدولة الإسلامية وتوسيع الفتوحات وإقامة العمران والحضارة.
وبالأخذ بالأسباب استعاد البطل صلاح الدين بيت المقدس من يد الصليبيين، وبالأخذ بالأسباب الصحيحة اليوم تعود حضارة الإسلام ونستعيد الأقصى من احتلال اليهود وعدوانهم المتجدد على الأقصى خاصة وسائر فلسطين وأهلها عامة.
وقد جربت الأمة المسلمة أنها حين تأخذ بالأسباب الصحيحة تهزم المحتل اليهودي، وما معركة الكرامة سنة 1968م، ومعركة العبور سنة 1973م، وصمود الانتفاضة الفلسطينية ومخيم جنين، وهزيمة اليهود المتكررة في عدوانهم على غزة، إلا شاهد يؤكد أن الأخذ بالأسباب السليمة كفيل بهزيمة اليهود.
وإذا رافق الأسباب الصحيحة إيمان سليم تام وقوي فإن الأمة المسلمة تستطيع أن تحافظ على نصرها وتطوره وتستفيد من نتائجه وثماره، ليزول الاحتلال بالكلية، ومن هنا تأتي خطورة العبث بتدين الأمة ومحاربته من خلال نشر الفجور والتشجيع عليه، والدعوة للعلمنة والحداثة وصرف الناس عن الوحي الرباني قرآناً وسنة، ونشر البدع والخرافات وإحياء الفرق الضالة والمناهج المنحرفة بين الناس حتى لا يتبعوا الأسباب الصحيحة التي تقيم حضارتهم وتنصرهم على عدوهم.