مائدة لمليون صائم!

الرابط المختصر
Image
مائدة لمليون صائم!

في الحرم المكي تقام أكبر مائدة في العالم سنوياً، فعلى مدار 30 يوماً في شهر رمضان المبارك، تقام مائدة الإفطار لجميع المصلين رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وهؤلاء يتجاوز عددهم مليون شخص وقد يصل لمليون ونصف في غالب المواسم، وقريب من هذا العدد في الحرم النبوي بالمدينة النبوية (ونسأل الله أن نرى هذا قريباً في المسجد الأقصى المبارك). وتحتوى هذه المائدة على التمر والماء والشاي والقهوة في الحد الأدنى، ويقدم البعض إضافات أخرى تتنوع بين وجبات الإفطار التي تقدمها الجهات الخيرية والتي تحتوى على الماء والعصير وحبة فاكهة وبسكويت، وبعض أهل الخير يقدمون وجبات عشاء مجانية في ساحات الحرم، أما في داخل الحرم فمما يلفت نظرك ما يقوم به أهل الغنى -من كافة الجنسيات– بتقديم بعض المأكولات المتنوعة لمن حولهم من المعتمرين والزوار، فترى تنوع وامتداد العالم الإسلامي في حلقات الإفطار قبل وبعد صلاة المغرب، فالسعودي مع المصري وبجواره المغربي الذي يقابله الصيني والتركي، والأردني واللبناني مع بعض الأفارقة الذين لم أستطع تحديد دولتهم بسبب جهلي بلغات إخواننا من قارة افريقيا المظلومة.
ما يلفت في هذه المائدة أن مدتها من بداية تجهيزها إلى وقت رفعها والاستعداد للصلاة للجميع لا تستغرق أكثر من 3 ساعات فقط، مع مراعاة أنه يجب أن يأكل الجميع معاً بكلمة الله أكبر من مؤذن الحرم، وليس على دفعات كما هي العادة في الموائد التي يسجلها كتاب غينس للأرقام القياسية! 
المتأمل في إدارة هذه المائدة المليونية، يجد أن لها قواعد وأعرافا مستقرة جعلتها تسير في غاية اليسر والسهولة رغم ضخامة العدد وضيق المساحة، وأن غالب التجهيزات لها تقام والضيوف موجودون، مما يربك العاملين نوعا ما كما هي العادة، بخاصة أن كثيراً من الضيوف لا يعرف هذه القواعد، وأيضاً أن القائمين على هذه المائدة جهات عديدة تتوزع بين هيئات خيرية متخصصة لتفطير الصائمين، وأفراد يقصدون الأجر والثواب بخدمة الصائمين من المعتمرين، وفرق النظافة المخصصة للحرم المكي والتي تتبع رئاسة شؤون الحرمين الشريفين.
في الحقيقة إن هذه المائدة لا يمكن أن تدار إلا بوجود خطة إدارية محكمة يعرف كل شخص في الفريق دوره فيها، ففي خلال 20-30 دقيقة يتم غسل كل ممرات الحرم وساحاته في حركات وخطوات متناغمة رغم ضيق الممرات ووجود المصلين ووجود السجاد. وللعلم، بعد حرب الخليج الثانية تمت إضافة خطة تموين القوات المتعددة لمساقات إدارة الأعمال في بعض الجامعات الغربية كمثال على إدارة الأعمال الضخمة (إعاشة نصف مليون جندي).
إن هذه المائدة الرمضانية تستحق أن يخرج عنها أكثر من فيلم وثائقي لجمالها ومعانيها السامية، والتي لو كانت عند غير المسلمين لكانت مما يتم التفاخر به، لكن بسبب نفسية الانهزام يتم التعامي عن كل إنجازاتنا الصغيرة والكبيرة، وهذا يبرهن لنا أن المسلمين في عصرنا هذا، رغم ما يعانونه من تخلف وجهل إلا أنهم قادرون على إنجاز الكثير من الأشياء لو توفرت الخطة السليمة والانسجام بين أعضاء الفريق والقيادة الحكيمة، فأغلب أعضاء الفريق العامل في مائدة الحرم هم من بسطاء المسلمين الذين لم يتلقوا الكثير من المعارف لكن حين حددت لهم أدوارهم بشكل صحيح نجحوا في تحقيق الكثير. فلو أتيح لنا أن نوسع دائرة النجاح هذه لتشمل أشياء أخرى في سلوكيات الصائمين والمعتمرين في الحرم سنكون قد وضعنا أقدامنا على طريق الإنجاز والتغيير.
هذه مهمة يجب أن تقوم بها الجهات الخيرية والرسمية في السعودية والدول الإسلامية كافة، من خلال بث ثقافة العمرة والحج السليمة والتي لا تقتصر على الهيئة الصحيحة لكيفية العمرة والحج، لتشمل المقاصد الشرعية من الحج والعمرة والتي منها الانسجام مع سائر المسلمين والتعرف على أحوالهم وشؤونهم والتواصل مع الآخرين، مما يستدعى ترك بعض حظوظ النفس وتوطينها على التعاون ومد يد المساعدة، والخروج من الرتابة ودوامة المشاغل للتفكر في حقيقة الحياة والآخرة. كما يجب أن تشمل ثقافة الحج والعمرة التنبيه إلى كثير من السلوكيات الخاطئة على الصعيد الشخصي أو الصحي أو التعامل مع الآخرين أو التعامل مع مرافق الحرم، ويمكن أن نقترح على الجهات المعنية بشؤون الحج والعمرة بعض الأفكار في هذا الاتجاه:
-     إعداد أفلام تعليمية بعدة لغات تحارب العادات الخاطئة (صحياً، اجتماعياً، سلوكياً) بسبب الثقافة أو البيئة المحلية، ويمكن عرض هذه الأفلام في الطائرات القادمة لجدة والمدينة أو في المطارات والحافلات والفنادق وساحات الحرم.
-     تضمين كتب صفة الحج والعمرة مقاصد الحج والعمرة والسلوكيات الصحيحة والخاطئة.
-     تطرق البرامج الإذاعية والفضائية الخاصة بالحج والعمرة لهذه القضايا.
إن المسلم المعاصر مستعد لأن يكون نموذجاً مثالياً لقيم الإسلام إذا وجدت خطة سليمة توجهه وفريق متناغم يساعده، للخروج من ظلمات الجهل والتخلف التي تملأ بيئته، لنمد للمسلمين يد العون ليقدموا إنجازات جديدة ولنوسع انجازات مائدة الحرم.