متى نطلب الفتوى؟

الرابط المختصر
Image
متى نطلب الفتوى؟

من الظواهر الإيجابية في واقعنا اليوم حرص الكثيرين على صحة أعمالهم وعباداتهم الشرعية، ولذلك يلجأون لسؤال أهل العلم عنها، عبر برامج الإفتاء في الإذاعة والتلفزيون.
والاستفتاء والإفتاء والفتوى أمور أصيلة في الإسلام، فقد وقعت فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيها آيات قرآنية، فقال تعالى: ? ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ? [النساء: 127]، وقال تعالى: ? يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ? [النساء: 176]، والفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي خاصة، و توضيحه، لمن سأل عنه.
والفتوى تعتمد على الصدق والعلم، الصدق من المستفتي في عرض القضية، وعلى المفتي في تقديم العلم الصحيح إذا كان يعلمه، ولذلك كان الصحابة والتابعون يتدافعون الفتوى، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأول".
والدافع لطلب الفتوى هو تعلم حكم الدين والعمل بمقتضى هذا العلم، ولذلك لأن تعلم العلم الشرعي فيه مقدار واجب تعلمه على كل مسلم، وهو ما يحتاجه المسلم من تعلم أركان الإيمان والإسلام، حتى تصح عقيدته وعبادته ومعاملاته اليومية، وهناك قدر مشترك منه بين جميع المسلمين مثل تعلم الشهادتين ومعناهما العام، وتعلم أحكام الصلاة والوضوء وصوم رمضان، وهناك قسم يتعلق بحاجة كل فرد لعبادة معينة، فمن نوى الحج أو العمرة أو تحصل عنده مال تجب فيه الزكاة وجب عليه تعلم أحكامها، وهكذا من نوى الزواج أو من عمل في التجارة أو الزراعة فيجب عليه تعلم الأحكام الشرعية المتعلقة بعمله ومهنته حتى لا يقع في خطأ ويقوم بها على وجهها الصحيح.
وتعلم هذا المقدار الواجب يكون من خلال الدراسة في المدارس أو المساجد أو قراءة الكتب وحضور الدروس أو سماعها عبر الإذاعات أو الفضائيات أو عبر مواقع العلماء على شبكة الإنترنت، المهم أن تكون مقرونة بالفهم السليم والأدلة الصحيحة الشرعية المعتبرة.
ومِن وسائل تعلم العلم الشرعي الواجب طلب الفتوى، عند حصول واقعة لا يعرف فيها الحكم الشرعي، فيتم اللجوء للسؤال عنها وطلب فتوى حولها.
ومن هنا عرف تاريخنا طلب الفتوى بطريق مباشر بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم من العلماء من صحابته وهكذا بقي يطلب من العلماء، إما مباشرة بالسؤال الشخصي، أو عبر الكتابة للعلماء، ومن هنا ظهرت كتب كثيرة للعلماء هي في أصلها إجابة على فتوى لشخص أو بلد أو جهة حكومية.
ثم في العصر الحاضر عرفت بعض المجلات تخصيص باب خاص للإجابة على أسئلة واستفتاءات الناس مثل مجلة المنار لرشيد رضا، ثم ظهرت برامج الإفتاء على الإذاعة والتلفزيون، ومن ثم في الفضائيات، وأصبحت الأسئلة مباشرة بعد أن كانت تعتمد على رسائل البريد.
ومن يتابع برامج الإفتاء يلمس في أسئلة الناس صدقا بتحري الحلال والحرام، ورُقيا وشفافية في الانتباه لتفاصيل قد تغيب عن بال الكثيرين ويكون فيها ضرر على بعض الناس أو الممتلكات العامة، كما تلمس فيها إخلاصا وندما على وقوع الأخطاء في حق الله عز وجل أو حق الناس أو حتى الحيوانات.
ولا تقتصر أسئلة واستفتاءات الناس على جوانب دون أخرى بل تشمل العبادات المتنوعة المفروضة كالصلاة والصيام والحج والزكاة، أو النوافل والقربات والسنن المتنوعة، وتشمل الحقوق المالية في النفقة والميراث والأعمال والشركات والهبات وغيرها، وتشمل أيضا الأخلاق والسلوكيات والمظاهر، كما تشمل كذلك العلاقات الزوجية والعلاقات بين الأقارب والجيران والشركاء.
كما أن المتصلين ليسوا من فئة دون أخرى، فكلا الجنسين من الرجال والنساء يتصلون، ومن مختلف الأعمار يتصلون، ومن كل مناطق البلاد، ومن مختلف المستويات التعليمية.
وهذا كله يؤشر لأهمية الاعتناء بهذه البرامج وإعطائها كل ما تستحقه من رعاية واهتمام ومساحة، بتوفير أوقات أطول لتلبية حاجة الناس، واستضافة العلماء الثقات دوماً.
لكن هناك ملاحظة سلبية في استفتاءات الناس وأسئلتهم وقد نبّه عليها كثير من المفتين والعلماء، وهي طلب الفتوى بعد وقوع الفعل، فتجد سائلا يقول: ما حكم شرائي لسيارة من بنك ربوي؟ أو قوله: ذهبت للحج وفعلت كذا وكذا، أو تشاجرت مع أنسبائي وحلفت على زوجتي ألاّ تزور أهلها، وهكذا.
وهذا السلوك – السؤال بعد الحادثة - خطأ كبير، لأنه يوقع الإنسان في خطأ أو إثم كان يمكن تجنبه بالسؤال عن حكم الفعل قبل حدوثه، مما يجنب المسلم الوقوع في الإثم، ومن ثم يلزمه التوبة والاستغفار، وقد يلزمه كفارة أو فدية، فضلاً عن الآثار الاجتماعية لبعض التصرفات من قطيعة رحم، أو وقوع طلاق وتشتت للأسرة، أو وقوع في شباك الربا مما لا يستطيع الفكاك منه إلا بصعوبة كبيرة جداً، وهكذا.
وهذا كله كان يمكن تجنبه بالتزام طلب الفتوى قبل إقدام المسلم أو المسلمة على العمل أو التصرف، لأن المسلم يجب أن تكون تصرفاته وأخلاقه وعباداته ومعاملاته وأفكاره وعقائده منسجمة مع الشريعة الإسلامية، ? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ? [الأنعام: 17]، وكان يمكن تجنب هذه الإشكالات كلها بتعلم أحكام الشريعة بهدوء وبرويّة.
وهذا التعلم المسبق – وهو الأصل- والسؤال قبل وقوع الحدث والفعل، هما قمة الجدية في الالتزام بالأحكام الشرعية ودليل الحب والاهتمام الأكيد بالتزام أوامر الله عز وجل، ويجب علينا جميعا رجالاً ونساءً أن نكون ذلك الإنسان الجدي والحريص على تعلم أحكام الشريعة والسؤال عما أشكل علينا من أمور في عباداتنا ومعاملاتنا قبل فعله.