إن من المفاهيم اللازمة للوعي العام في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا أن الخير لا ينقطع في هذه الأمة، وأن الأمة المسلمة لا تطبق على الشر والضلال، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره" رواه الترمذي.
فشبّه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة المسلمة بالمطر الذي هو خير وبركة لعموم البشرية والكائنات، والتساؤل عن تفاوت الخيرية بين أوله وآخره هو من باب كثرة الخير فيه بحيث قد يحتار الإنسان في الأفضل منه، ومعلومٌ قطعًا أن العصر النبوي هو أفضل العصور ولكن لا يمنع هذا من وجود أفراد من المسلمين في آخر الزمان قد يسبقون بعض من تقدمهم في الزمان إلا الصحابة الكرام.
وأهمية الوعي بهذا المفهوم في هذا الوقت تأتي من ضرورة طرد روح اليأس والقنوط التي تصيب بعض الناس ممن تضعف قلوبهم عن تحمل قهر الآلام والأحزان أو تعجز أفهامهم عن إدراك عموم الصورة الكلية لمجريات الواقع.
ويتضاعف الأمر ويصعب مع كثرة الأخبار وسهولة تداولها بكافة الصور والأشكال، ولكن مَن حصل شيئاً ولو قليلاً من ثقافة التعامل مع الإعلام أو حاز على بعض الوعي بآلية عمل الإعلام لا بد له أن يدرك أولاً أن الإعلام -في غالبه- بيد أعداء أمة الإسلام، ولذلك فهناك تقصد بتضليل المسلمين في كثير مما يطرح إعلامياً عبر نشرات الأخبار المتلفزة أو عبر الإنترنت، فضلا عن وسائط التواصل الاجتماعي.
وثانياً: إن اهتمام عالم الإعلام عموما هو بالكوارث والمصائب وليس بالأمور الإيجابية، فنحن سنسمع عن حادثة سقوط طائرة أو اصطدام قطار في أقاصي بلاد العالم فور وقوعها، لكن لن تسمع أبداً عن آلاف الطائرات والقطارات التي تنطلق وتعود سالمة كل لحظة!
ولذلك سوف تنقل لك وقد تضخم الكوارث والجرائم التي تحيق بالمسلمين، ولكن لا تجد إعلامًا عاما يبث نجاحات المسلمين وإنجازاتهم، ومما يسهم في طمس الإعلام عن هذه الجهود انشغال الإعلام المحلي بكل قُطر وبلد بتشويه القطر والبلد الآخر بسبب العداوات والإحَن (الأحقاد) بين دولنا المسلمة والعربية!
وثالثا: وسائل الإعلام لا تركز غالبا إلا على الفعاليات الترفيهية والفنية والغنائية والرياضية، وبسبب هذا التركيز تتضخم صورة هذه الفعاليات في الأذهان ويظن الناس أو بعضُهم أن المجتمع هو هذه الفعاليات وجمهورها! بينما هذا خلاف صورة الواقع تماماً، فصورة المساجد واجتماع المصلين فيها أو تزاحم المسلمين على سماع الدروس والمحاضرات وصلاة الجمعة بشكل يومي أو أسبوعي لا محل له في الإعلام بخلاف مباريات الدروي أو حفلات الغناء أو المهرجانات.
والأعمال الخيرية للجان الزكاة والصدقات المستمدة من فريضة الزكاة والتي تمتد في الزمن بعيداً وحمت المجتمع من كثير من المصائب والكوارث تغيب إعلاميا لصالح المبادرات المؤقتة ذات الطابع العصري والحداثي.
هذا كله يشكل خللا في امتلاك وتكوين صورة حقيقية للمجتمع المحلي أو المجتمع الإسلامي العالمي، فيظن البعض أن الفساد عمّ وطمّ، وأن الإسلام هُزم، وأن الدين انتهى، وأنه لا أمل ولا فائدة في المستقبل.
لمحاربة هذا التصور الخاطئ والمدمر، والذي هو في الحقيقة هدف وغاية الأعداء من السيطرة على عالم الإعلام تبرز ضرورة الوعي بديمومة الخيرية في أمة الإسلام وبث هذا الوعي وتذكير الناس بجوانب الخير التي يعيشونها في كل لحظة برغم الواقع البائس والضاغط "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" (النساء: 104).
ومن صور الخير الراسخة في أمتنا ومجتمعاتنا -والتي تغيب عن الأذهان- التفاعل والإيجابية لدى عموم الناس فيما يخص هويتنا الإسلامية، ومن ذلك رفض أي تخريب أو انحراف في المناهج التعليمية، سواء بما يخص الجانب الديني أو الجانب العلمي والمعرفي والمهاري، وكذلك الفعالية الرائعة لدى كثير من الشباب لتسخير الوسائل الحديثة فيما يعود عليهم بالفائدة والمنفعة الحقيقية.
ومن أشكال الخير الترابط الاجتماعى في الأسرة -برغم كل المشاكل والتراجع- والتي تتفوق على بقية الأمم، ومن أشكال الخير استمرار قطاع لا يستهان به من العاملين في المؤسسات العامة بتقديم الخدمة بإخلاص وإتقان برغم كل الفساد والمحسوبية وقلة الإمكانات.
ومن صور الخير مسارعة عموم الناس للمساعدة والتعاون في الأزمات والحوادث وتعويض النقص الذي يظهر، ومنها حرص كثير من الجمهور على رفض الفساد ويتبين ذلك في أشكال كثيرة من آخرها انتخاب قيس سعيد رئيساً لتونس برغم عدم انتمائه لتيار أو قيامه بحملة دعائية.
إن من يتأمل في واقع مجتمعاتنا وأمتنا خلال العقود الماضية سيجد أن هناك تقدما كبيرا على عدة أصعدة منها تقدم حالة التدين والتعليم والبنية الصحية والطرق والإنارة والاقتصاد، وبرغم ما تعانيه العديد من الدول اليوم من أزمات وحروب إلا أن الوضع الحالي -على سلبياته- أفضل من بداية القرن الماضى، وعليه يجب الحفاظ على ما تحقق والمثابرة على تصحيح المائل من الأحوال، وإلا كان البديل هدم كل ما تحقق دون ثمرة حقيقية.
من لوازم الوعي بديمومة الخير في الأمة المسلمة فهم وإدراك أن الخير يتوفر حتى لدى المخطئ أو العاصي، والذي قد لا يبدو عليه الالتزام الديني والمحافظة، ومن نماذج ذلك "أبو هيثم" وهو رجل سارق مشهور سُجن مع الإمام أحمد بن حنبل، وبرغم سرقته ومعصيته إلا أنه قدم للإمام أحمد نصيحة عظيمة إذ قال له: أنا ضُربت 18 ألف جلدة في حياتي على ما قمت به سرقات في طاعة الشيطان، أفلا تصبر أنت على الضرب في طاعة الرحمن من أجل الدين؟ فكان لكلامه وقع في قلب الإمام أحمد رحمهما الله.
ومن لوازم الوعي بديمومة الخير في الأمة عدم افتراض الكمال والتمام في أصحاب الخير، بل قد يكون عندهم نقص قليل أو كثير، وكم في تاريخنا من شخصيات كان لها أثر ايجابي كبير وفي نفس الوقت صدرت منهم أخطاء ونقائص، فلا نلغي إيجابياتهم لبعض سلبياتهم ولا نغفل سلبياتهم لإيجابياتهم، بل نوازن بالحق بينهما، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر. فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَن وافقهم".
وللأسف أن هذا الأصل غائب عن كثير من شباب أهل السنة اليوم ممن يتقاتلون ويتشاجرون عبر منصات التواصل الاجتماعي نصرة لدولة وبلد ضد دولة وبلد، فهم لا يعترفون بالخير الذي مع خصومهم ولا يقرون بنقص مَن يؤيدون، ولذلك يقع الطرفان في رد شيء من الحق ويتولد بذلك باطل جديد!
ختاماً؛ أمتنا فيها خير كثير، وهذا الخير يجب حفظه، وتحتاج الأمة إلى المزيد من جهود أهل الخير ليزيد خيرها ويعم.
"مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره"
2019/10/01
الرابط المختصر
Image