محاور الإيمان بالغيب في عقيدة التوحيد 1-محور حقيقة الوجود

الرابط المختصر
Image
محاور الإيمان بالغيب في عقيدة التوحيد 1-محور حقيقة الوجود

في المقابل السابق عرضنا لمفهوم الغيب، وهو كل ما غاب عن إدراكنا وحواسنا، وتوصلنا لصدق أخبار الغيب في القرآن الكريم والسنة النبوية وأن الإيمان به هو بوابة الإيمان وبوابة الأمان والاستقرار للمؤمنين به وهو أول علامة للمتقين وردت في القرآن الكريم.
وفي هذا المقال سنستعرض محاور الإيمان بالغيب في عقيدة التوحيد الذي جاء به الوحي الرباني في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حتى نفهم شمول الغيب ومنطقيته وكيف يحقق الأمان والاستقرار، حيث سأحاول رسم خريطة متكاملة للخطوط الأساسية والكبرى للغيب المطلوب إسلامياً من أفراده -رجالاً ونساءً- الإيمان به وهو يتضمن أركان الإيمان الستة، في هذا الزمن الذي كثرت فيه التفاصيل المفككة أو المبعثرة بين الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقلّت فيه الصورة الكاملة التي تحتاج إلى جهد ووقت أكبر من ذلك الذي تمنحه تغريدة ورسالة قصيرة ولا يتحصل إلا عبر قراءة مطولة أو التزام بالدراسة والبحث عبر المؤسسات الأكاديمية أو التقليدية على يد العلماء.
ومن المهم التنبيه على أن الإيمان بالغيب في الإسلام ليس مجرد تسليم تام بدون قناعة ودليل عقلي، فالوحي الرباني يأمرنا بالتفكر والتدبر لأمر الغيب فقال تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون" (الطور: 35-36)، وهذا حث على التفكير والتدبر وحصر للاحتمالات توصل العقل للإيمان بالغيب الذي جاء به الوحي الرباني في القرآن والسنة، وذكر لنا الله عز وجل في القرآن حواراً حول عقلانية الخلق والبعث بعد الموت وكلها من أمور الغيب، قال جل وعلا: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم" (يس: 78)، فكما خلق الإنسان من عدم فإعادته بعد الموت والبلى ممكنة وسهلة، فالغيب في الإسلام عقلاني يمكن تفهمه وبعضه تحتار فيه العقول لعجزها وقصورها لكن ليس فيه بتاتاً ما يستحيل وقوعه عقلاً.
والإيمان بالغيب المطلوب من المسلم والمسلمة يكاد ينحصر في أربعة محاور كبرى، هي:
- ما هي حقيقة الوجود الذي نعيش فيه، ووجودنا نحن أيضاً؟ كيف حدث؟ وكيف يسير؟ وإلى متى يستمر؟
- مَن أوجد هذا الوجود؟ ما صفاته وأسماؤه؟ لماذا أوجد هذا الوجود؟ وما هي غاية وجودنا نحن البشر في هذا الوجود؟ 
- ما السبيل لمعرفة كيفية تحقيق هذه الغاية من الوجود؟ وما هو موقف البشرية من هذه الغاية ؟
- ما هو مستقبل هذا الوجود؟ وما هو مستقبلنا نحن البشر؟
هذه هي المحاور الكبرى التي تشمل أمور الغيب تقريباً من منظور العقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد، وسوف نستعرض كل محور منها بإيجاز في مقال مستقل بإذن الله.
1- محور حقيقة الوجود:
أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم عن كثير من تفاصيل الغيب تجاه حقيقة الوجود الذي نعيشه ووجودنا أيضاً، كيف حدث؟ وكيف يسير؟ وإلى متى يستمر؟
لم يخبرنا الله عز وجل بتوقيت خلق الكون بالتحديد لأنه أمر لا يترتب عليه كبير فائدة عملية، فهو أمر حدث قديماً قبل آلاف أو ملايين السنين، ولا توجد طريقة لمعرفة ذلك إلا من خلال الوحي الرباني الصادق والمحفوظ وهو أمر غير متوفر.
لكن الله ورسوله أخبرانا الكثير عن ذلك الغيب من جهة حقيقة الكون وأنه مخلوق، وأخبرنا الله عن كيفيه خلقه له وترتيبه في الخلق، فقال عز وجل "الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل" (الزمر: 62)، وقد ثبت لدى العقلاء -على اختلاف أزمانهم ومرجعياتهم- انتظام الكون وعدم وجود تفاوت فيه واضطراب وتناقض مما يؤكد أنه من مصدر واحد، لكن هذه العقول نفسها تحتار وتتناقض في تحديده وليس لها من سبيل موثوق لمعرفة ذلك إلا من خلال الوحي الرباني بأنه الله عز وجل.
ثم أخبرنا الله عز وجل أن هذا الكون كان عدماً وخلقه الله بأمره، لقوله تعالى: "بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كُن فيكون" (البقرة: 117)، ومعنى الإبداع: أي الأمر المخترع الجديد الذي لم يكن له مثال سابق، والذي وجد بأمر من الله عز وجل بقوله كلمة كُن، والدراسات الفلكية الحديثة التي تتبنى نظرية الانفجار العظيم تقر وتعترف أن تمدد الكون اليوم يشير إلى أنه كان عدما في الماضي السحيق!
ثم أخبرنا الله عز وجل أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام لحِكمة عنده سبحانه "ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لُغوب" (ق: 38) ولغوب: أي تعب، وقال أيضاً: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" (الأعراف: 54)، ويوافقه ما جاء في السنة المطهرة من قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حقيقة الوجود فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خَلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" رواه البخاري، وتشير الآية والحديث إلى خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض.
وفصّل لنا ربنا هذا الخلْق فقال جلّ ذكره: "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهنّ سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم" (فصلت: 9- 12)، فخلْق الأرض كان في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، وجعل الرواسي وهي الجبال وتقدير الأقوات في يومين آخرين بعد خلق السماوات فصار مجموع خلق الأرض وإرساء الجبال وتقدير الأقوات أربعة أيام، وصار الجميع ستة أيام، والدليل على تأخر إرساء الجبال وتقدير الأقوات قوله تعالى: "أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليها وأخرج ضحاها * والأرضَ بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها" (النازعات: 27-32).
ونبهنا تعالى إلى أن السماء كانت دخانا، وهو ما تبين اليوم لعلماء الفلك في وكالة ناسا للفضاء بعد أن أرسلوا مركبة لاكتشاف خلفية الكون سنة 1989م!
وأخبرنا سبحانه أن السماء كانت ملتصقة بالأرض، فقال تعالى: "أولم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما" (الأنبياء: 30)، فتقهما: أي فصلهما، وهو ما توصلت له العلوم الفلكية الحديثة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وهناك الكثير الكثير من الآيات والأحاديث التي تتناول تفاصيل الخلق الرباني للسماوات وما فيها من نجوم وكواكب وأقمار وشهب وأنها تجرى بدقة وانتظام "وسخّر الشمس والقمر كلٌّ يجرى لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلّكم بلقاء ربكم توقنون" (الرعد: 2)، وأنه ينتج عن ذلك تعاقب الليل والنهار.
وكذلك تفاصيل خلق الجبال والبحار والأنهار والأشجار والدواب في الأرض والرياح والمطر والسحاب منها قوله سبحانه: "إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" (البقرة: 164)، وقد توصل العلم الحديث إلى التوافق مع كثير من الغيب الذي أخبرنا به الله عز وجل في القرآن الكريم والسنة النبوية.
وخلَق الله عز وجل الملائكة والجنّ والجنة والقلم واللوح المحفوظ والماء قبل خلق الإنسان، وقد يكون خلقهم قبل خلق السماء والأرض، لكن الله عز وجل حين خلق جنس الإنسان والبشر والذي كانت بدايته خلق آدم عليه السلام بيدي الله عز وجل من تراب الأرض وسواه من طين وصلصال وأمر الملائكة بالسجود له فقد كانت هذه المخلوقات موجودة، قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجانّ خلقناه من قبلُ من نار السموم* وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون  * فإذا سوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فقَعُوا له ساجدين" (الحجر: 26-29)، وقال سبحانه أيضاً: "ولقد خلقنا الإنسان مِن سلالة من طين" (المؤمنون: 13)، وقال تعالى: "قال يا إبليس ما منعك أن تسجدَ لما خلقتُ بيديّ" (ص: 75)، وبهذا يتبين لنا ضلال فِرية تطور الإنسان والبشر من الحيوانات بحسب ما ينسب لداروين من سلف مشترك، فالقرآن يخبرنا أن البشر خُلقوا خلقا مباشر وكاملا من الله عز وجل، وليس لهم علاقة بجنس آخر وهو الحيوانات قال تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" (التين: 4)، وهذه الفرية ثبت بطلانها من خلال اكتشاف آلاف الأحافير التي يبلغ عمرها آلاف السنين، بل الملايين، وهي تحوي كائنات مختلفة تامة كحالها اليوم من الأشجار والأسماك والطيور والحشرات والحيوانات والناس مما ينسف دعوى التطور.
ثم إذا كان التطور حقيقة فلِم توقف ولم نعد نجد تطورا الآن؟ وكيف يمكن للصدفة العشوائية أن تنتج كونا منظما فتنقسم كل الكائنات الحية إلى ذكور وإناث؟ وكلها تحتاج الهواء والماء والطعام؟ والجنس الواحد يبقى مستقرا لا يتطور فيه جزء دون آخر فنجد مثلا بعض الناس تصبح لهم عين ثالثة مثلاً؟
وهذه الآيات من جهة أخرى تنسف مزاعم من يفرّقون بين البشر والإنسان، فيقولون آدم ليس أبا البشر! والله عز وجل يصرح في الآيات السابقة عن خلق البشر/الإنسان من طين لأنهما شيء واحد، وفي آيات كثيرة بيّن القرآن أن البشر هو الإنسان وأن الإنسان هو البشر، كما في قوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قل إنما أنا بشر مثلُكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه" (فصّلت: 6).
وقد كرم الله عز وجل الإنسان بتعليمه الأسماء كلها وأسجد له الملائكة وسخر له كل المحلوقات، قال تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" (البقرة: 31-33)، فالإنسان خلق مكرما في بدنه وعلمه وعقله وليس كما يصور لنا عبر أفلام الكارتون أو نظريات علم الآثار التي تزعم أن الإنسان كان جاهلاً محدود التفكير بسبب أصله الحيواني التطوري! بينما الإسلام والقرآن يقرر أن الإنسان الأول آدم كان يعلم الأسماء كلها وكان متديناً بل نبياً وعاش في الجنة التي هي في غاية التقدم والنعيم ثم أهبط للأرض، فالدين والعلم والتقدم هو الأساس في الناس ثم حدث الشرك والجهل والانحطاط، وهذا يحتاج تفصيل لا مجال له هنا. 
وقد فصّل القرآن الكريم في آيات كثيرة والسنة النبوية كذلك عملية خلق الإنسان بعد ذلك من خلال خلق حواء زوجة آدم من ضلع من أضلاعه، قال تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء" (النساء: 1)، وشرحت السنة النبوية ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنّهنّ خُلقن من ضلع" رواه البخاري، أي ضلع من أضلاع آدم عليه السلام.
وبعد ذلك أصبح خلق الإنسان يتم عبر تزاوج الرجل والمرأة، وقد بيّن القرآن الكريم كيف يحدث ذلك وكان هذا غيبا عن البشرية والإنسانية لآلاف السنين حتى تطورت العلوم والمعارف والأدوات لتكتشف دقة الغيب الذي أخبر عنه الوحي الرباني، ولضيق المساحة لا يمكن التفصيل في ذلك.
وأخبرنا الله عز وجل أنه سخّر هذا الكون عبر سنن ربانية وضعها فيه لخدمة الإنسان فقال تعالى: "وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" (الجاثية: 13)، وهذا ما يثبته الواقع، فبرغم وجود كائنات من حيوانات وجمادات وظواهر الطبيعية هي أقوى وأكبر من الإنسان إلا أن الإنسان فقط هو من يسخّرها لمصلحته، فلا الأفيال ولا الأسود ولا الحيتان ولا الجبال ولا الرياح والزوابع تَستخدم الإنسان، بينما الإنسان يفعل ذلك ويتقدم على مدارج الرقي والتحضر.
وسيبقى هذا الوجود يسير على سنن الله عز وجل في الكون بنظام وانتظام حتى تقوم القيامة وتحل ساعة الحساب وتنتهي مدة الحياة فجأة، وعندها يضطرب حال هذا الوجود وينتهي لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة القيامة ثم البعث ثم الحساب ثم الثواب والعقاب، وهنا يصبح الحديث عن الغيب المستقبلي بعد أن كان الحديث عن الغيب الماضي والحاضر، قال تعالى: "فهل يَنظرون إلاّ الساعة أن تأتيَهم بغتة" (محمد: 18)، وقال تعالى: "ولكنّ البرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر" (البقرة: 177)، فجمع الله عز وجل بين الإيمان بوجوده وخلقه للكون وأن الكون للابتلاء وأن له نهاية هي اليوم الآخر.
وعندها "يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات" (إبراهيم: 48)، وقال تعالى: " فإذا النجوم طُمِست * وإذا السماء فُرِجت * وإذا الجبال نُسِفت" (المرسلات: 8-10)، وقد عرض القرآن والسنة تفاصيل كثيرة لذلك.
هذه باختصار الخطوط العريضة لحقيقة الغيب الذي أخبرنا به الله عز وجل تجاه محور الوجود والكون الذي نعيش فيه وحقيقة وجودنا؛ ماضيه وحاضره ومستقبله، والمطلوب منا كمسلمين ومؤمنين رجالاً ونساءً أن نؤمن به ونصدق به ونعمل بمقتضى هذا الإيمان من الإقرار بخلق الله عز وجل للوجود كله ورفض كل ما يخالف ذلك، والاستعداد لليوم الآخر بالقيام بحق الله عز وجل الخالق المبدع القادر الرحمن الرحيم.