لا نزال نعرض محاور ومضامين الإيمان بالغيب التي جاءت بها عقيدة التوحيد الإسلامية، في هذا المقال سيكون حديثنا عن مُوجد هذا الوجود الذي استعرضنا في الأسبوع الماضي خطوطه العريضة، وكيف تم ذلك وترتيبه ومساره ونهايته، حيث سنتناول بيان صفات وأسماء موجد الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، ولماذا أوجد هذا الوجود؟ وما هي غاية وجودنا نحن البشر في هذا الوجود؟
بالطبع إن الإجابة المثالية للتعرف على الله عز وجل ستكون بالعودة له سبحانه وتعالى وذلك من خلال كلامه المحكم المتين في القرآن الكريم ومن خلال بيان النبي الأمين عليه الصلاة والسلام في السنة النبوية، لقوله تعالى: "أأنتم أعلم أم الله" (البقرة: 140).
فقد أخبرنا القرآن الكريم في آيات عديدة أن الله عز وجل هو خالق الكون وموجده ومنشئه ومبدعه ومدبره ومالكه، وهو الذي يصرف شؤونه ويرعاه، قال تعالى: "الحمد لله فاطر السموات والأرض" (فاطر: 1)، وقال تعالى: "هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً" (الأعراف: 54)، وقال تعالى: "الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله" (الروم: 48)، إلى آيات كثيرة جداً.
ولم ينازع في خلق الله عز وجل للكون والسماء والأرض أحد، فحتى المشركين يعترفون بذلك، "ولئن سألتَهم مَن خلق السموات والأرض ليقولن الله" (الزمر: 38)، نعم، يوجد بعض الناس أنكروا وجود الله عز وجل وخلقه للكون لكنهم عجزوا عن بيان كيف وُجد الخلق وعجزوا عن إثبات عدم وجود الله عز وجل لأن الله عز وجل هو الحق أصلاً الذي أوجد الوجود، وإنكاره إنكار للوجود ذاته لأن الوجود مفتقر لمن يوجده!
وقد أخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم بأن له أسماء حسنى وصفات عليا فقال جل مِن قائل: "ولله الأسماء الحسنى فادْعوه بها" (الأعراف: 180)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" متفق عليه.
وقد بيّن لنا الله عز وجل في القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم الكثير من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وذلك من أول آية في القرآن الكريم وهي "بسم الله الرحمن الرحيم"، فالله عز وجل من صفاته وأسمائه الرحمن الرحيم.
وأسماء الله عز وجل كثيرة لا تحصر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" رواه أحمد وصحّحه الألباني.
وقد جمع الشيخ ابن عثيمين ما ورد من أسماء الله عز وجل في القرآن الكريم فكانت: الله الأحد الأعلى الأكرم الإله الأول الآخر الظاهر الباطن البارئ البرّ البصير التواب الجبار الحافظ الحسيب الحفيظ الحفي الحق المبين الحكيم الحليم الحميد الحي القيوم الخبير الخالق الخلاق الرؤوف الرحمن الرحيم الرزاق الرقيب السلام السميع الشاكر الشكور الشهيد الصمد العالم العزيز العظيم العفو العليم العلي الغفار الغفور الغني الفتاح القادر القاهر القدوس القدير القريب القوي القهار الكبير الكريم اللطيف المؤمن المتعالي المتكبر المتين المجيب المجيد المحيط المصور المقتدر المقيت الملك المليك المولى المهيمن النصير الواحد الوارث الواسع الودود الوكيل الولي الوهاب.
وأما ما ورد من أسماء الله في السنة النبوية فهي: الجميل الجواد الحكم الحيي الرب الرفيق السبوح السيد الشافي الطيب القابض الباسط المقدم المؤخر المحسن المعطي المنان الوتر.
وقد وضح الله عز وجل بشكل صريح في القرآن الكريم أن صفاته صفات كمال لا نقص فيها ولا مثيل لها ولا شبيه قال تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الشوري: 11)، وقال تعالى: "ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم" (النحل: 60)، ولذلك فإن كل صفاته صفات تامة كاملة كصفة حياته ووجوده وقوته وعلمه وبقية الصفات التي أخبرنا بها هو جل وعلا في القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم.
مما علمنا ربنا عن صفاته ما وصف نفسه عز وجل في آية الكرسي، أعظم آيات القرآن الكريم، بصفات متعددة هي: الحي، القيوم، لا تأخذه سنة (غفوة) ولا نوم، العِلم، العلي، العظيم، وما جاء في صورة الصمد، التي تعدل ثلث القرآن الكريم، فنفى عن نفسه الولادة والولد، ونفى في آيات أخرى وجود زوجة له "وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبةً ولا ولدًا" (الجن: 3).
وأخبرنا الله عز وجل عن الكثير من صفاته وأفعاله، ومن نماذج ذلك قوله جل وعلا عن خلقه آدم بيديه مباشرة: "يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ لِما خلقتُ بيديّ أستكبرتَ أم كنتَ من العالين" (ص: 75)، وأخبرنا عن مجيئه يوم القيامة لفصل الحساب فقال سبحانه: "وجاء ربك والملكُ صفاً صفاً" (الفجر: 22)، وأخبرنا ربنا أنه يكلم من يشاء فكلّم موسى عليه السلام فقال تعالى: "وكلّم الله موسى تكليماً" (النساء: 164)، فهذه نماذج لبعض ما علّمنا ربنا عن صفاته العليا والكاملة في القرآن الكريم.
ومعلوم أن الإنسان إذا عَرف أسماء وصفات الخالق والرب والإله وعرف عظمتها ورحمتها وحُسنها فإن هذه المعرفة تورث في القلب الإيمان والاطمئنان لأنه سيعرف أن خالقه رحيم عليم حكيم قادر قوي وأن خلقه وخلق الكون لم يكن عبثاً ولا باطلاً، وهذا يقودنا لبيان الغاية من هذا الوجود ووجود الإنسان على وجه الخصوص.
يَعرض القرآن الكريم بكل وضوح الغاية من وجود هذا الكون وهي أنه مسخر لمصلحة الإنسان كما في قوله تعالى: "الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار * وسخّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين وسخّر لكم الليل والنهار* وآتاكم مِن كلّ ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (إبراهيم: 32-34).
ويبين لنا الله عز وجل في كتابه الغاية من خلق الإنسان: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً" (الملك: 1-2)، وقال تعالى: "وما خلقتُ الجن والإنس إلاّ ليعبدون" (الذاريات: 56).
بهذا التكامل في كشف الغيب تقدم العقيدة الإسلامية للبشرية الحقيقة التي لا حقيقة سواها، وهي أن هذا الكون هو مخلوق من قبل الله عز وجل، الله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة والتامة، والذي ما خلق هذا الخلق عامة، والإنسان خصوصاً، إلا ليعبدوه ويوحدوه.
ومن قامت عبوديته على فهم حقيقة الوجود وحقيقة موجده عز جل ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا فإن عبادته ستكون مرتكزة على الحب لهذا الإله العظيم الله ذي الجمال والجلال كما قال تعالى: "والذين آمنوا أشدّ حبّاً لله" (البقرة: 165) وذلك لأنهم تعرفوا على رحمة الله وعظمته ولطفه وعلمه وقوته وحكمته وكرمه للأخيار وشدة عقابه للأشرار، وهذه المعرفة بالله عز وجل هي التي تقود القلب والعقل لتحقيق غاية الوجود ووجود الإنسان وهي عبادة الله عز وجل.
ويلخص الإمام ابن القيم هذه الخلاصة بقوله: "أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدّهم حباً له، فكل اسم من أسمائه وصفاته تستدعي محبة خاصة، فإن أسماءه كلها حسنى وهي مشتقة من صفاته، وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل فعل وعلى كل أمر إذ ليس في أفعاله عبث، وليس في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل والرحمة"، وعندها تكتمل دائرة السعادة للإنسان بتحقيق غاية وجوده واستحقاقه للسعادة الأبدية في الاخرة دار الجزاء والثواب والعقاب.
محاور الإيمان بالغيب في عقيدة التوحيد 2- محور موجد الوجود وغاية الوجود
2017/11/01
الرابط المختصر
Image