مدرسة الحج

الرابط المختصر
Image
مدرسة الحج

الحج هو حلم كبير في حياة كل مسلم، لأنه إنجاز كبير وبسبب ذلك فُرض مرة واحدة في العمر، ولِما للحج من تأثير إيجابي بالغ على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة كما يلمس ذلك الكثيرون ممن حجوا أو احتكوا بمن حج، فإن المسلمين يتنافسون في تحقيق هذا الحلم بكل ما يستطيعون.
 ولا يمكن لأحد أن يحصر القصص الخرافية التي قام بها الكثيرون من أجل تحقيق هذه الأمنية، خاصة من المسلمين في المناطق البعيدة والفقيرة كما في بعض دول آسيا وأفريقيا، والذين تراهم يحجون بعد أن مكثوا عشرات السنين لجمع المال اللازم فلا يصلون إلى مكة إلا وقد شابت رؤوسهم وانحنت ظهورهم، ترى ملامح الفقر بادية على أخاديد وجوههم وعروق أياديهم، وكذلك المسلمين الذين يقطنون في دول تضطهدهم، فلا يمكنهم الحج إلا بمشقة شديدة مثل المسلمين في الصين حيث لا زال المسلمون الصينيون في تركستان يسقطون ضحايا لآلة القمع الصينية.
ورغم أن عدد مسلمي الصين في أقل التقديرات الحكومية يصل إلى 50 مليوناً بينما تبلغ التقديرات الإسلامية الصينية 100 مليون، وبحسب قرار منظمة المؤتمر الإسلامي الذي حدّد عدد الحجاج بألف لكل مليون نسمة، فإن حصة مسلمي الصين بالحد الأدنى هي 50 ألف حاج، إلا أن عدد الحجاج الصينيين هذه السنة بلغ فقط 14 ألف حاج وهي أكبر حملة حج شهدتها الصين!! وقد عرضت قناة الجزيرة قبل أيام برنامجاً عن مسلم من الصين واستعداده للسفر للحج وكيف أن زوجته كانت حزينة لعدم قدرتهما على دفع التكاليف التي بلغت 7 آلاف دولار، وقد نقل التقرير احتفالات القرية بسفر حجاجها وتمنياتهم بتمكنهم من الحج قريباً.  
هذا الشوق العارم للحج وتحمّل مشقة العمل وتوفير المال لسنوات عديدة ليس من أجل رحلة سياحية لزيارة مناطق خلابة وذات أجواء رائعة، بل هو من أجل سفر لصحراء قاحلة "بواد غير ذي زرع" وطقس حار مزعج، وهذا ما لا يستطيع أن يفهمه من تعلق قلبه بمتع الحياة فقط ولا يؤمن عقله إلا بالماديات المجردة، لأن الدافع للحج لدى المسلمين هو الإيمان والتعظيم لله عز وجل الذي أمر بالحج لبيته "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بما للحج من أثر في سعادتنا في الدنيا والآخرة فقال: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، وقال: "ما من مسلم يلبي إلا لبي من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا".
وقد وصف كثير من العلماء الحج بأنه مدرسة مهمة في حياة المسلم، وينقل د.صلاح سلطان عن كتاب قواعد الإسلام قول مؤلفه: "السفر للحج والعمرة تذكرة لسفر الآخرة وأهوال المعاد.. وكان ركوبه للراحلة مثلاً لركوبه نعش الجنازة، ودخوله البادية وقطعه عقباتها إلى الميقات تذكرة للخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة ومشاهدة تلك الأهوال والمطالبات، وكان انفراده عن الأهل في البر ومكابدته من قطاع الطريق وسباعه مثلاً لخلوته في القبر من ديدانه وأفاعيه، وكان التفافه لثوبه وإحرامه مخالفاً لهيئة لباسه تذكرة لثياب الكفن إذ كلاهما غير مخيط ملفوفاً فيهما العبد، وكان تلبيته الله تعالى عند الميقات تذكرة إجابة الداعي من الأجداث يوم يُنفخ في الصور، وكان دخوله الحرم أشعث أغبر مثلاً لقيامه من القبر شاخصة أبصاره مع الناس، ذاهل العقل، عاري البدن من اللباس، وكان انصبابه إلى مكة مع جملة الزائرين مثلاً لانصباب الناس في القيامة من جهة الجنة آملين دخولها، وكان دخوله إلى البيت وتعلقه بأستاره ميلاً لحضرة الملك جل جلاله"، وهو وصف دقيق لشعور الحاج المتأمل في حجه وفي مناسكه، خاصة مع اختلاط الحجاج من مختلف الألوان والأشكال والألسن فيما يشبه يوم القيامة.
من دروس مدرسة الحج التي يمكن أن يتعلمها الحاج اليوم ومن يشاهد الحجاج عبر شاشات الفضائيات  نذكر منها:
1- سعة رحمة الله عز وجل الذي من رحمته أنه يجازي المسلم على العمل القليل بالأجر الكبير، ففي مقابل بضعة أيام أو حتى شهور قبل عشرات السنين، تغفر لك سيئات عمرك كلها وتدخل الجنة للأبد    "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" !
2- الحج فرصة للتدرب على ضبط الجوارح وكبح الشهوات، فالحاج يمنع نفسه بعد الإحرام من قص شعره ووضع العطر وتقليم الأظافر وتغطية الرأس – للرجل- وترك لبس الثياب المخيطة ليعود نفسه على تغيير عاداته وأن يكون الوعي هو المسيطر على تصرفاته، كما أن على الحجاج إلزام أنفسهم بترك بعض الشهوات المباحة مثل الجماع ودواعيه، كما أنهم يُمنعون عن اللغو والرفث والفسق، وفي هذا درس وتدريب عملي للمسلم لترقية إرادته وتقوية عزيمته، ويشارك الحجاجَ في بعض ذلك المسلمون الذين ينوون التعبد لله بذبح الأضحية فيمتنعون عن قص الشعر وتقليم الأظافر لحين الانتهاء من تقديم أضحياتهم.
وحتى يكون التعليم والتدريب فعالاً لكافة النفسيات فإن هناك عقوبات مالية لمن يتعمد فعل ذلك، حتى تنزجر النفوس الخشنة.
3- من الدروس في الحج التعود على النظافة والترتيب حتى مع أبسط الأوضاع، فرغم أن الحاج يذهب للمبيت في الصحراء بمنى إلا أنه يُطلب منه الاغتسال وإزالة الشعر الزائد ووضع الطيب قبل الإحرام، ليكون الجميع في هيئة حسنة، ورغم المنع من التزين في الحج بوضع الطيب وتقليم الأظافر وحلق الشعر بعد الإحرام، إلا أنه يجوز الاغتسال للنظافة وتمشيط الشعر وتغيير ملابس الإحرام، لأن النظافة والطهارة ركنان أصيلان في الإسلام.
4- مراعاة ظروف الناس من دروس الحج المهمة، ولذلك خفف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على النساء والأولاد والمرضى في بعض المناسك، كما رخص لبعض العاملين في خدمة الحجاج في بعض المناسك حتى لا يشق عليهم وعلى الحجاج.
5- تدريب النفس على التسليم لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنى أعلم أنك حجر – يقصد الحجر الأسود – لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبّلتك"، وهكذا الحاج يعود نفسه على التزام أمر الله عز وجل وهذا هو الدليل العملي على الإيمان بالغيب، فمن آمن بالله عز وجل رباً وإلهاً لا يأمر إلا بالحق فلن يتردد أبداً عن تنفيذ أمره ولو لم يتبين له شخصياً المقصود من هذا الأمر، وفي قصة إبراهيم وذبح إسماعيل عليهما السلام عبرة وعظة للصادقين في إيمانهم.
هذه بعض دروس مدرسة الحج والتي لها أثر كبير في المسلمين ولو لم يتنبه لها بعض الحجاج بوضوح، إلا أن الحج له تأثير في الحجاج لا يُنكر ولو لم يستطع كثير من الحجاج التعبير عنه، ولذلك فإن هناك ارتباط كبير بين ازدياد عدد الحجاج وازدياد قوة ونهضة الأمة، وأيضاً فإن نوعية الحجاج ووعيهم مؤشر على نوعية الأمة ووعيها.