مركز البيان للبحوث والدراسات
: ظل علم التراجم والسير ينبض بالحياة على مر العصور بغض النظر عن ثقافته وتاريخه. وقد ظهر له نضوج وتمدد في نطاقين ومرحلتين حضارية/تاريخية، وعانى من الذبول والانحسار في نطاق ومرحلة ثالثة؛ هي ما نعيشه في مرحلتنا الحالية وحضارتنا الإسلامية العربية. لقد برز نضوجه الأول مع نهضتنا الحضارية الإسلامية الأولى فقد تنوع وكثر التصنيف في التراجم والسير حتى أصبح علماً مستقلاً بل أصبح مكتبة واسعة وافرة التنوع والأقسام حافلة بالمجلدات الكثيرة جداً، فمن علم السيرة والسير والمغازي إلى تراجم العلماء والأئمة إلى كتب طبقات المذاهب وطبقات المحدثين والرواة إلى تراجم علماء الفنون المختلفة كالنحاة والأدباء والقضاة .. إلى أعلام القرون إلى كتب الجرح والتعديل ومنها كتب ثبت الرواة والمشايخ إلى سير الزهاد والمتصوفة، إلى الكتب المفردة في مناقب الأئمة الكبار المتبوعين، وفي كل باب تجد المؤلفات الكثيرة على مدى تعاقب القرون وتجد الكتاب الواحد منها حافل بالمجلدات الكثيرة .. حتى ليخيل لك وأنت ترى هذه الوفرة الثرية أنه ما من علم برز في شأن وجانب من جوانب حضارتنا إلا وترجم له وأثبت عنه خبراً. وفي دورة التفوق والحضاري الغربية المعاصرة برزت الترجمة والتعريف برجالات حضارتهم وعباقرة النجاح، وقامات النهضة لديهم، برزت بقوة واتسع وانتشر التأليف في الحياة عن حياتهم وإنجازاتهم .. وتفرعت وتنوعت كذلك فنون التأليف في هذا المجال بصورة أخرى، بل وأصبحت فروع معرفة وأبواب أدب مستقلة، فظهر فن السيرة الذاتية والمذاكرات وصنفت إلى السياسة والأدبية. وغيرها، ظهرت كفنون تأليف مستقل تملأ كتبها أروقة المكتبات، وأصبحت فرعاً ممتعاً وجاذباً وآسراً للقراء ليس في نطاقهم الثقافي فحسب، بل وترجمت إلى لغات العالم، وأصبحت قراءتها عند المثقفين العرب مجالاً تخصيصياً يصرف لها بعض القراء أكثر قراءته وجهده في المتابعة والاقتناء. هذا ولها قيمة علمية خاصةً، كونها مصدر تأريخي وتوثيقي لكثير من الأحداث السياسية والتاريخية، وكنز فاعم بالتجربة والخبرة في جوانب القيادة والتأثير والفن الأدبي والكتابي. يقول الدكتور إحسان عباس :( فلا ضير في أن يستنتج القارئ تفوق الآدب الغريبة على الأدب العربي في السير والتراجم الشخصية فذلك حافز على العمل .. ولا ينقص من قدر السيرة لدينا إذا عرفنا أن خط التطور في السيرة بالغرب أوضح منه في الشرق، خضوعاً للتغيير في القاعدة الاجتماعية) [ انظر: فن السيرة / د. إحسان عباس - ص: ٦-٧ ] وفي مركز دائرة الضعف هذه نجد بؤرة معتمة تشير إلى تراجم رجال الإصلاح الحقيقي من مجددي العصر؛ رموز الإصلاح السلفي، إذ من ضرورة الفهم أنهم استهدفوا بالتغييب عن منابر الثقافة والإعلام من ممسكي زمامها المتنكرين لدينها وهويتها. إن إعادة الاعتبار لأئمة التجديد المعاصر لا تتمثل المصلحة فيه في إعادة الوزن والمقام الحقيق بهم في منابر الثقافة فحسب؛ بل إنهم _بعرض سيرهم وتراجمهم_ نماذج ملهمة تبعث في نفوس الأجيال القارئة حفز ودافعية يُتَسنم طريقها. فمهما زخر تاريخنا وسنة وسيرة النبي صلي الله عليه وسلم خلف قرون خلت بمأثر الاقتداء فإنه لا غنية عن سِيَر قريبة ماثلة وحاضرة في ظروف مشابهة لظروفنا ، وفي لون حياة وصبغة مشابهة لحياتنا المعاصرة في خفوت أنوار النبوة ووهن القلوب وهوان الأمة..، يقول الشيخ ابراهيم السكران : " إن أعظم ما يداوي الاستنامة للواقع والتفكير الأفقي معايشة تجارب المنجزين في العلم والثقافة والإصلاح ، ومخالطة تفاصيل كدحهم ومكابدتهم ، بل كم من رمزٍ حاضرٍ اليوم في إعلام الثقافة والتغيير نتوهم أننا نعرفه ، والواقع أن معرفتنا به غير دقيقة ، ولا تتجاوز القشور الخارجية ،،، نحن مفتقرون إلى معايشة جزء من تجارب هؤلاء لنستثمره في مداواة أسقام الدافعية التي ولدها الاستغراق في المجريات " [ انظر : المجريات / ص:٢٠-٢١] ولا نزعم أن هذا الكتاب عمدة في هذا الشأن ولكن حسبه أن يومض ببارقة يتلقفها البصراء فينسجوا على منواله ويوسعوا ويتعمقوا، ويستخرجوا باجتلاء معالم ومنارات الإصلاح والتجديد والجهاد والدعوة... هذا الكتاب: حينما نتأمل كتاب أسامة شحادة المعنون ب"رموز الإصلاح السلفي المعاصر" نجده قصد فعلاً سد الثغرة التي أشرت لها سلفا ولمس وجودها ،إذ قال في المقدمة :" وكنت من سنوات طويلة دائم الاهتمام بجمع تراجم العلماء والدعاة ، والتجارب الدعوية ، والجماعات والجمعيات السلفية ، فتكشف لي حقيقة الجهل الكبير والخطير بتاريخ الدعوة السلفية المعاصرة من جهة ، ومقدار التقصير والعقوق بحق رموزنا وعلمائنا وكبرائنا ، فإننا لم ندون تراجمهم، ولم نحفظ تجاربهم وخبراتهم ، وكانت غالب تصوراتنا عن علمائنا محصورة في المحور العلمي والبحث" ، وأشار إلى قصر تعريفه بهم حسب ما رأى أنه مناسب للتعريف بالإصلاح السلفي المغيب . وحينما تُبْحر في عباب الكتاب يتراءى لناظرك تشابه كبير في معالم الإصلاح لديهم، ورغم أن الباحث كتب عن سيرهم بطريقة تلقائية متتبعاً أبرز محطات الإصلاح دونما تصنيف أو تبويب لها، لكنه يبرز للقارئ ذلك التوافق النسقي بين منارات وصوى الإصلاح وكأنهم - على بعد الزمان والمكان - تواصوا به ، ولا عجب فهم أجدر الناس بوراثة الأنبياء ، وهم كما جاء في الحديث: "الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد..." . معالم الإصلاح عند الرموز السلفية: ١- الدعوة للإسلام بمفهومة الشامل وتنوع مجالات الإصلاح : فقد استهل المؤلف ترجمته لعلال الفارسي بالتنويه بدوره السياسي الكبير ودوره الإسلامي الإصلاحي، وأنموذج العالم السلفي المجدد، ومؤسس الأحزاب، ومسعر حرب الاستقلال، ورئيس لجنة كتابة الدستور. وتحدث عن العلامة طاهر الجزائري وممارسة دوره الإصلاحي من خلال: مهمة التدريس في المدرسة الظاهرية، وتأسيس "الجمعية الخيرية الإسلامية "، وتأليف عدد من الكتب منها مناهج دراسية وإنشاء مطبعة حكومية، وتكوين عامة. وهذا محمد بهجة البيطار بعدما أحيل للتقاعد بقي يقدم بعض المحاضرات في التفسير في كلية الشريعة، واستمر يدرس ويخطب الجمعة بمسجد الدقائق، وإلقاء الأحاديث الدينية في الإذاعة السورية، بالإضافة لنشاطه الكبير لخدمة المجمع العلمي ومجلته.. أما الإمام عبدالعزيز بن باز فهو مدرسه في شمولية منهج الإصلاح وتنوع مجالاته ، فقد كان ينوء بدور العصبة أولى القوة ، فمن رئاسة إدارة البحوث العلمية ومنصب الإفتاء ورئيس هيئة كبار العلماء إلى رئاسته للعديد من المجالس العلمية والمجامع الفقهية إلى عنايته بقضايا المسلمين في العالم ، وإقامة المؤسسات الدعوية في العالم ، ومناصرته الدائمة للعلماء ، وعلاقته مع رموز الحركات الإسلامية ومرجعيته الاستشارية لهم ، ومكاتبته ومراسلاته للكثير من الملوك والرؤساء ، وفوق ذلك بقي محافظاً على طلبه للعلم وتدريسه فالدروس اليومية والأسبوعية مستمرة ، بخلاف الندوات والمؤتمرات .. ٢- التضحية والبذل وحتمية المحن: تماماً على نهج الأنبياء لا يدخر رموز الإصلاح السلفي أدنى جهد وطاقة لبذلها في سبيل دعوتهم ويلزم من ذلك ضرورة تعرضهم للأذى من شتى قوى التأثير المحيطة. فهذا ابن باديس يتعرض لمحاولة القتل بسبب موقفه من الصوفية وتتعرض جمعيته جمعية العلماء المسلمين للتضييق كإيقاف ترخيص مدارسها ومراقبيها، وتعطل صدور صحيفتها .. وأخيراً لحل الجمعية، وفرض الإقامة الجبرية عليه، ونفي صاحبه البشير الإبراهيمي. وهذا جمال الدين القاسمي يتعرض للمحن بسبب تحوله للسلفية، وهذا الألباني يستعرض مخطوطات المكتبة الظاهرية التي يبلغ عدد مخطوطاتها عشرة آلاف مخطوط، وهو يبحث عن ورقة ضائعة من مخطوط " ذم الملاهي " لابن أبي الدنيا، وكان أحياناً يبقى واقفاً على السلم عدة ساعات، وهو في إجازة مرضية بأمر الطبيب، وهذا القرعاوي يتعرض لمحاولة الاغتيال مرتين ... ٣- مركزية التربية في مشاريعهم الإصلاحية: لا تكاد تقرأ سيرة إصلاحية لرمز سلفي إلا وتجد أن التربية تحتل القلب والمركز في اهتمامه وجهده، والأداة المحورية لنجاح مشروعه الإصلاحي .. فهذا الشيخ طاهر الجزائري يقول محمد كرد علي منهجه "وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة عن طريق العلم " ويقول المؤلف عنه: ".. وتوصل إلى أن العلم هو مفتاح النهضة .." وهذا ابن باديس يقوم مشروعه وجمعية العلماء المسلمين على التربية والتعليم وإنشاء المدارس وتعليم الفتيات، وكانت دروسه تقام طوال النهار والليل حيث كان يدرس عشرة دروس في اليوم. وهذا العلامة جمال الدين القاسمي كان يدرس في غالب أوقاته وفي كل مكان و كان يدرس جميع الطبقات من العامة والخاصة، والشيخ القرعاوي رائد في الإصلاح بالتربية والتعليم بدءاً بتأسيسه نهج الكتاتيب الاحتسابية دون أجرة في نجد سنة ١٣٤٧ ه، ثم دعوته الإصلاحية في جنوب الجزيزة العربية، ثم مدارسه ومعاهده التي انتشرت في أنحاء المملكة حيث وصلت تعدادها حوالي ٢٨٠٠ مدرسه. كذلك كان العلامة ابن السعدي، يقول عنه المؤلف : وهذا الاهتمام من السعدي بالتعليم ينطلق من رؤية فكرية واضحة لحاجة الأمة للعلم ، وأنه الأساس الذي عليه تقوم النهضة ، وبداية طريق العزة والكرامة . وعلى نهجه تلميذه ابن عثيمين، الذي وصل تأثير دروسه إلى آفاق الدنيا ، وذلك من خلال : الطلبة من مختلف الجنسيات ، ونقل الدروس مباشرة عبر الهاتف ، وأشرطة الدروس وحرصه على تسجيلها ، ودرسه في الحرم المكي ، والتدريس الأكاديمي ، والمجالس الخاصة ، ووضع المناهج الدراسية .. ٤- أثرهم في التجديد؛ جذور عميقة، وفروع ممتدة: حينما يجتمع الإخلاص في جهد إصلاحي مع المنهج الشرعي السلفي الأصيل، مع البذل والتضحية الصادقة، فلن تكون النتيجة سوى آثار تجديدية عميقة متجذرة، وممتدة عبر الأجيال. فقد أثمرت جهود الإبراهيمي الاصلاحية بأن قال عنه المؤلف: (إن مكانة الإبراهيمي في الثورة الجزائرية لا يمكن وصفها إلا بأنه " روح الثورة " ). وهذا رفيقه على الدرب ابن باديس تمكن بعون الله من تربية جيل جزائري كامل، وتكوين أمة تدرك شخصيتها الإسلامية والعربية، أما العلامة طاهر الجزائري فقد عده المؤلف من الشخصيات المحورية التي صنعت النهضة، واليقضة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين. وعز الدين القسام الذي يكاد يكون قدم تجربة متكاملة للعلاقة بين العلم والعمل، وأعاد للناس تجسيد المفهوم النبوي لدور العالم وهو وراثة النبوة، وتجسيدها في واقع الناس بالتعليم والقدوة، وقرن العلم بالعمل والجهاد. أما الشيخ عبد العزيز بن باز فهو إمام العصر بحق، ولم يظهر أثر شخصية سلفية معاصرة كأثره، وفي ترجمته في الكتاب شواهد لا تحصر من آثاره في التجديد في مختلف المجالات. وكذلك الإمام المجاهد محمد رشيد رضا الذي رأى فيه المؤلف نقطة انطلاق الصحوة السلفية والإسلامية العامة التي نعيشها في عالمنا المعاصر، فعلى امتداد (٤٠) عاماً كان مصدر الإشعاع والتوجيه لمختلف أقطار الأمة الإسلامية، من خلال مجلة المنار وعبر عن أثره ومنزلته تلميذه محب الدين الخطيب حينما أشار إلى أنه "كان في علمه وفضله أعمق غوراً من أن يعرفه أكثر الناس كما هو في الحقيقة، وإن الذين عرفوا جوانبه العامرة بالفضل والسبق والتفوق قليلون جدا ". - See more at: http://albayan.co.uk/RSC/article2.aspx?ID=3457#sthash.SBSJCpLa.dpuf
مراجعة لكتاب رموز الاصلاح السلفي
2015/09/01
الرابط المختصر
Image