منذ عقود انطلقت من مصر سياسة إشغال ليالي رمضان بمسلسلات فارغة تلهي الناس عن همومهم ومصالحهم، وظهرت بعدها فوازير رمضان التي تعرضها راقصات في شهر القرآن العظيم، وتبعت مصر على درب الفساد غالب أجهزة الإعلام في عالمنا العربي، حتى أصبح شهر رمضان أبرز موسم لتنافس المتنافسين على الولوج لدركات الفساد الإعلامي.
كانت النتيجة لذلك تفريغ رمضان من تقوى الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 183)، فتحْت ضغط الإعلام والترويج الدعائي الاستهلاكي تحوّل الصوم ليكون غرقاً في شهوات الطعام والشراب بكل أشكالها وأجناسها، حيث تزداد في رمضان كمية النفايات والأطعمة غير المستفاد منها عن بقية السنة، وبسبب طوفان اللحم الرخيص في برامج القنوات وحفلات المطاعم والأسواق تأججت الشهوات المسعورة بلا انطفاء!
وفي هذه السنة (زاد في الطنبور نغما) فقد أُعلن عن مسلسل (الحلاج) ليعرض في رمضان المبارك، فبعد تفريغ شهر القرآن الكريم من محتواه وملئه بالشهوات المحرمة والمتع الشيطانية جاء دور نثر الشبهات وحرف عقيدة الصائمين والصائمات بتمجيد شخصيات ضالة ومنحرفة أجمع أعداؤها وأنصارها على حد سواء على أنها تصادم أصول الدين ومسلّمات الإسلام ومحكمات القرآن الكريم والسنة النبوية.
وللخروج من دائرة الجدال حول حقيقة الحلاج وفكره ومعتقده سأستعرض نماذج من كلام أنصار الحلاج في عصرنا من العلمانيين والشيوعيين والحداثيين والمستشرقين حول فكره وعقيدته الحقيقية، وهؤلاء لا يمكن وصفهم بالعداء للحلاج أو عدم الموضوعية والإنصاف معه.
بل إن مسلسل الحلاج ما جاء إلا تنفيذا لرؤيتهم بضرورة نشر مثل هذه النماذج بين المسلمين لتكون بديلاً عن المنهج الإسلامي الذي يعرفه المسلمون عبر تاريخهم، والذي هو الدافع لهم على رفض العدوان والاحتلال لأوطانهم وتقبل الظلم والاستبداد ومقاومة سرقة ونهب خيراتهم وثرواتهم، وأن الروح الإسلامية السارية في جنبات العالم الإسلامي والتي تنبع من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية ومن تطبيق الشعائر الإسلامية من الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة والصدقة وبر الوالدين ورعاية الأسرة هي التي لا تزال تقف سداً منيعاً في وجه سيطرة الأفكار الإلحادية والإباحية وطوفان المخدرات والزنا وغيرها من الفواحش والمنكرات.
ودعم التصوف -وخاصة نماذج الحلاج وابن عربي وأمثالهم- هو لبّ توصيات المراكز الغربية كتقرير "بناء شبكات مسلمة معتدلة" لمؤسسة راند المنبثقة من وزارة الدفاع الأمريكية، وهو خلاصة مشروع الحداثيين العرب كنَصر حامد أبو زيد في كتابه "هكذا تحدث ابن عربي"، ومن هنا تأتي خطور مثل هذا المسلسل حيث يوظف الدراما في شهر رمضان الديني لتقديم رمز (ديني) لترسيخ قيم غير دينية عند جمهور ثقافته الدينية ضعيفة، لتكون النتيجة تشكيل العقول حسب المصالح الدولية باسم الدين والإسلام!!
وفيما يلي نماذج لرؤية العلمانيين والحداثيين والشيوعيين والمستشرقين للحلاج ستكشف لنا سبب ترويج نموذج الحلاج اليوم:
نبدأ مع د. أحمد صبحي منصور، زعيم القرآنيين في العالم والمقيم في أمريكا، والذي يقول في كتابه "التصوف والحياة الدينية في مصر المملوكية" (49/1): "قُتل الحلاج لأنه أعلن عقيدته صراحة، فاضطر الآخرون إلى نوع من المواءمة بين عقيدتين متعارضتين (الإسلام والتصوف)، فوضعت للتوحيد درجات تبدأ (بتوحيد العوام) ويقصدون به الإسلام، وتنتهي (بتوحيد الخاصة) أو (التوحيد المحض) ويعنون به وحدة الوجود".
ويشرح أكثر عن حالة الخوف والسرية والتقية عند الصوفية والتي سميت (شطحات) د. عبد الرحمن بدوي -الفيلسوف الوجودي المعروف- في كتابه "شطحات الصوفية" ص 23 فيقول: "ولعل السبب في هذا الدفاع على هذا النحو ما شاهده الصوفية من خطر يتهددهم إذا أوغلوا في الشطح... فمصير الحلاج إذن كان أبلغ عِبرة لهم في هذا الباب... وليس من المستبعد أن يكون الشبلي هو أول من نبّه الصوفية إلى وجوب عدم الإباحة بهذه الأسرار، لأنه -وقد كان صديق الحلاج الحميم- وشاهد مصيره، فأثّر في نفسه أبلغ تأثير وأعمقه... قال الشبلي: "أنا والحلاج في شيء واحد، فخلصني جنوني وأهلكه عقله" وفي هذا القول الغريب نرى الشبلي يعترف على نفسه بجبنه، فجنونه هو جبنه عن التصريح بما شاهد وعاين وما لقنه الحق، وعقل الحلاج هو إذاعته ما كاشفه به الحق في تجليه عليه"!
فالحلاج والشبلي لهما عقيدة تخالف جمهور المسليمن صرح بها الحلاج فقُتل، وخاف الشبلي فكتمها وأسرّها، ولم يقتصر الأمر عند الحلاج على فكرٍ وعقيدةٍ تخالف عقيدة المجتمع المسلم، بل كان له انتماءات سياسية سرية أيضاً، ففي مقال "فصول منسية من التصوف السياسي، التاريخ السري للحسين بن منصور الحلاج، والمنشور في دورية الملتقى المغربية (عدد 14 صيف 2006) ينقل لنا محيي الدين اللاذقاني عن المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون -عاشق الحلاج- (ص 21) أن الحلاج كان له دور سياسي باعتباره قطبا ورائدا للحركة التي خلعت الخليفة المقتدر ونصّبت ابن المعتز مكانه، وهذا الدور السياسي الانقلابي لرموز التصوف ليس فريدا، ففي عصرنا الحاضر تتهم تركيا الصوفي فتح الله كولن بأنه مدبر الانقلاب على الرئيس أردوغان في صيف 2016، ومعلوم أن كولن يقيم حالياً أمريكا في حماية الاستخبارات الأمريكية.
ولنفهم أكثر تفاصيل فكر وعقيدة الحلاج لنستمع إلى رضوان الشيخ في نفس عدد دورية الملتقى المغربية (ص 43) حيث يقول عن عقيدة الحلاج: "ينسف كل ما تعارف عليه المسلمون بَداهة في تحقير إبليس وفرعون، فهما لم يفعلا إلا ما اقتضته المشيئة الإلهية"! وهذه مغالطة مفضوحة، فإذا كانت الملائكة وإبليس أُمروا بالسجود لآدم فسجدت الملائكة ورفض أبليس فكيف يكون الطرفان مصيببن؟ وكيف يمدح عصيان إبليس؟ إلا إذا كان عصيان إبليس أفضل من طاعة الملائكة؟ وفي هذا الهذيان نفي لحكمة الأمر الرباني بسجود التكريم لآدم، وموسى وفرعون أُمرا بطاعة الله عز وجل فاستجاب موسى وعصى فرعون فكيف يكون فرعون كموسى؟ ولكن مساواة الحق والباطل والإيمان والحق هي ما يراد من الترويج للحلاج وأمثاله كابن عربي في الإعلام العربي اليوم.
ويشرح لنا المستشرق هنرى نيكلسون حقيقة فكر الحلاج في كتابه "الصوفية في الإسلام" مستعينا بأبحاث سلفه ماسينون فيقول في (ص 138): "وإذا كان (ناسوت) الله يشمل طبيعة الإنسان الروحي منها والجسدي، فإن (لاهوته) لا يستطيع الاتحاد بهذه الطريقة إلا عن طريق التجسد ... ومن هنا قال الحلاج في بعض شعره: مزجت روحي في روحك كما تمزج الخمرة بالماء الزلال ... وهذا المذهب في التأله الشخصي على الشكل الخاص الذي طبعه به الحلاج بينه وبين المذهب المسيحى الأساسي نسب واضح، ولذا كان هذا المذهب عند المسلمين كفرا من أشد أنواع الكفر"، وقد صدق!
ونختم حديثنا بكلام محمد الكحلاوي صاحب كتاب "الحقيقة الدينية من منظور الفلسفة الصوفية" في (ص 79) عن رؤية الحلاج للنبوة ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "بيّن الحلاج حقيقة النبي محمد باعتباره مصدر النور ومصدر نبوة الأنبياء السابقين عليه جميعاً ... إن مثل هذا الكلام عن حقيقة النبوة المحمدية أحدث استغراب وغضب علماء الدين ... لقد جاء كلام الحلاج بمثابة فلسفة تيولوجية في حقيقة النبوة... ليبنى اعتمادا على ما تجلى له في معراج الكشف الصوفي فهماً مختلفا وإشكالياً لحقيقة النبوة"، وهذا يصادم صريح القرآن بكون الله عز وجل مصدر النبوة "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم" (الشوري: 51) وبهذا الكلام الواضح عن مباينة الحلاج لمعتقد جمهور المسلمين في واحد من أهم أسس الإيمان وهو مفهوم النبوة نفهم الدافع لترويج هذه الشخصيات المنحرفة بين المسلمين في هذا العصر حتى تضطرب بوصلتهم وتنحل عرى عقيدتهم ووحدتهم ويتسلط الأعداء عليهم باعتبار الأعداء وعدوانهم من لدن إبليس وفرعون إلى طغاة العصر مظاهر مشيئة الله عز وجل الواجب الرضا بها، وبهذا المنهج الأعرج الخائب يلزمنا تهنئة نتنياهو وترامب على سعيهما في ابتلاع القدس باسم صفقة القرن وبمباركة رموز التصوف كالحلاج وابن عربي لأن ذلك مشيئة الله ولأنه لا فرق بين القدس بيدنا أو بيد اليهود!
مسلسل الحلاج في رمضان سمٌّ من نوع جديد!
2019/04/01
الرابط المختصر
Image