الحج ركن من أركان الإسلام، ومن ميزة الإسلام أن شعائره العبادية لا تقتصر منافعها وحكمها على الجانب الروحى فحسب، بل تمتد لبقية جوانب الإنسان المادية والاقتصادية والعلمية والسياسية، مما يجعل التزام الناس بالعبادات بحد ذاته معينا لهم على الرقي والتحضر والبلوغ للكمال في الدنيا والآخرة.
فأركان الإسلام وشعائره تحث على النظافة والطهارة والجمال، وهذا يتحقق بالوضوء والاغتسال وطهارة اللباس والمحل والتطيب للصلاة، وكما أنها تعوّد الإنسان على تقسيم الأوقات ومراعاة الزمن، والانتظام والترتيب والروح الجماعية، كما يتبدى هذا في مواعيد أذان الصلوات، وتحديد وقت الإمساك والإفطار للصيام، وحلول موعد الحج وحلول حول الزكاة، وصلاة الجماعة والصوم جميعا والاحتفال بالعيد سوياً، وأيضاً تدعو لمراعاة الجوانب الصحية من خلال النظافة والتزام سنن الفطرة والصوم والحركة، وأيضاً تدعو للتعاون ومراعاة الآخرين والتعارف والتواصل، كما ينتج عن صلاة الجماعة والاختلاط بين الشعوب في الحج ورعاية الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل.
وهذه الحقيقة يغفل عنها كثير من الناس مما جعل بعضهم يصدق أكاذيب أعداء الإسلام، وما أروع وعي أمير البيان شكيب أرسلان بحقيقة الحج وأنه لا يقتصر على الشعائر المجردة بل هو رحلة سمو في الدنيا والدين، وقد دوّن خواطره وتأملاته في كتابه الجميل "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف"، وهو كتاب ماتع لمن أحب مطالعة شيء ممّا يصلح أن يسمى أدب الحج، انظر إلى شكيب يقول (باختصار): "لم يخسر المسلمون بلدانهم فقط وما تسلط عليها الأجنبي وأخذ كل ما فيها أخذ عزيز مقتدر فحسب، بل خسروا في نظر الناس حقائقهم وفضائلهم وصار الناس يرونهم من أبعد الناس عن العمران – يقصد الحضارة والمدنية- وينسبون ذلك إلى الدين الإسلامي وإلى القرآن، وإلى التوحيد وإلى عقيدة القضاء والقدر، وإلى غير ذلك من الأسباب التي يعلمها من له ألفة بكتب الإفرنج أو من يجالس الناشئة الحاضرة في الشرق، ونسوا أنه ما من أمة على وجه الأرض وقد سعدت وأشقيت، وعلت ونزلت، وكانت ديانتها واحدة في دوري علوها وهبوطها، وإن الإسلام لهو أجدر من غيره بأن لا يكون مسؤولاً عن انحطاط أحد، وأنه طالما نهض بأهله إلى الدرجات العلى عندما كانوا يعملون بمقتضاه حق العمل.
وإنما كان المسؤول عن هذا الانحطاط، المسلمون لا الإسلام، والقراء لا الكتاب، ولا مجرم غير الخلف الفاسد الذي أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولقي الغي. خالفوا قواعد الإسلام من أولها إلى آخرها واتخذوا كتاب الله لمجرد الترتيل والتجويد ولم يعملوا بعُشر معشار ما فيه من الأوامر والنواهي، ورجعوا يعاتبون الله على الخذلان الذي هم فيه، والله قد أجابهم من قبل على اعتراضهم وقال لمثلهم: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)". إ.هـ
وأخذ شكيب بعد ذلك يبين جوانب من حضارة الإسلام وعمرانه حين كانت تعاليمه مطبقة وأوامره حاضرة، ويكشف عن الخيرات المتوفرة في بلاد الإسلام والتي تنتظر الهمم الصادقة للاستفادة منها، في مثال حي لدور الحج الصحيح والحقيقي في إحياء القلوب والعقول والبلاد والعباد لما فيه صلاح دنياهم وسعادة آخرتهم.
ولكن حتى تعطي هذه العبادات آثارها الكاملة ونتائجها الباهرة، لا بد أن يقوم بها المسلمون بوعي ومعرفة بأبعادها من خلال تعلم الأحكام والكيفيات الصحيحة للقيام بها، وهذا يكشف لنا عن ضرورة تنمية الخطاب الشرعي في الأمة، والذي يقدم في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام عبر أصحاب الخطاب الشرعي واستشعار المسؤولية وأهمية الدور الذي يقومون به، ويتبدى هذا باحترام ذوات المخاطبين في المسجد والإعلام بالتحضير الجيد والكافي، والحرص على تقديم المعلومة الصحيحة والسليمة من المصادر الموثوقة، وجودة العرض وإتقان الأسلوب، والذكاء في اختيار المواضيع ومراعاة الأحوال العامة، وتقديم وجبة ثقافية تعمل على تحقيق النهضة الإيمانية والفكرية والسلوكية والدنيوية.
ولا يمكن لدعاة الخطاب الشرعي من الارتقاء بخطابهم، إلا إذا كانت ظروفهم المعيشية جيدة، تمنحهم الوقت اللازم والذهنية الملائمة للتطوير والتحسين، أما أن يكون نظامنا الجامعي يعمل على أن يكون المنتسب للدراسة الشرعية والتربوية من أصحاب أقل المعدلات في سلم القبول الجامعي، فكيف ستحدث النهضة وننتظر الاجتهاد والإبداع لمعالجة تحديات العصر ومشاكله المستجدة!
كما أن يكون هؤلاء المعول عليهم في تقديم خطاب شرعي متقدم وجذاب، هم ممّن يبحث عن وظيفة إضافية ليواجه بها أعباء الحياة، ولا يضطر لمد يده للناس مباشرة أو احتيالاً، فهذه جريمة ترتكبها الدولة في حق المجتمع، ويرتكبها المجتمع في حق نفسه.
اليوم ونحن نعيش أيام الحج لا بد من أن نقف وقفات سريعة مع بعض المعاني والخواطر التي تتضمنها شعيرة الحج، هذه الشعيرة التي لم تتوقف منذ شرع الإسلام إلا عاماً واحداً وهو عام 317هـ، بسبب جرائم أبي طاهر القرمطي بقتل الحجيج واحتلاله للكعبة، كما يفعل اليوم أتباع بشار وأمثاله من قتل المسالمين في الأشهر الحرم، والله المستعان على كل ظالم.
نرى الحجيج على الشاشات وقد لبسوا البيض من الثياب، وتساووا جميعاً، تطرح على وجدان كل مسلم أهمية البحث دوماً عن بداية بيضاء جديدة، نخلع بها ما تراكم على أكتافنا من هموم وغموم وإساءات وخطايا وتقصير وعدوان، ولننطلق في رحلة جيدة، وعلى صفحة خالية نقية مسيرة نستدرك فيها الأهداف التي أهملناها أو نسيناها، أو حتى فاتتنا ولم نتنبه لها، لنقم الآن بلبس البياض إن كنا حجاجاً، أو نطلي بالبياض قلوبنا إن كنا نشاهدهم وندعوا الله أن نلحقهم في العام المقبل، ولا نستسلم لما يزعجنا من التصرقات والسلوك والعادات، فكلنا يعرف أو سمع بمن أعانه الله عز وجل فبدل حاله للأحسن، سواء على الصعيد العلمي أو المالي أو الوظيفي أو السلوكي، وأنت لا تختلف عنهم بشيء، فاجعل من لباس الإحرام الأبيض نقطة انطلاق للأمام، وخلع وتبديل لتلك المزعجات، وفتح صفحة جديدة، ولذلك (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) كما قال صلى الله عليه وسلم.
وحين يصل أصحاب الثياب البيضاء للحرم، يبدأون بالطواف حول الكعبة المشرفة، كناية عن التزامهم محور العبودية لله، وأن هذا هو غايتهم الكبري، ولذلك يلبون ويقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، فالعبودية هي المحور الحقيقي لرحلة الحياة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56].
وهذا حال المسلم يجب أن يبقى يدور في طاعة الله في حياته كلها، ويكون هذا هدفه الواضح الذي لا يحيد عنه، لأن من عرف هدفه الصحيح هذا وجدّ واجتهد في الوصل إليه وتحقيقه، يفز بموعود الله عز وجل في قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 38]، وقوله تعالى: (ومن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) [طه:123].
ويقول الشيخ السعدي في تفسير آية البقرة: "إعلامٌ منه سبحانه لعباده أنهم إذا التزموا وحيه وقاموا بعهده فإنهم لا يخافون من أي أحد ولا ترهبهم أية قوة ولا يحزنون على ما يفوتهم من مصلحة أو يصيبهم من تكاليف باهظة، فإن الله ناصرهم وخالف عليهم، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن هو في معية الله لا يغلب ولا يحزن فما عليهم إلا حسن الإخلاص لله والصدق معه في أخذ وحيه بقوة، وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا".
وأما الشيخ ابن عاشور فيقول في تفسير آية طه: "فلا يضل" فمعناه: أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله، فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحوال أخرى. وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية، فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غفلات، أو تعارض أدلة، أو انفعال بعادات مستقرة، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلب مرضاتهم".
ويكون التزام محور العبودية في الحياة، والسعي نحو تحقيق الهدف الحقيقي بامتثال قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) [الأنعام: 162]، فلا يتحرك المسلم حركة إلا وله نية خالصة بطلب مرضاة الله فيها، ولا يفعل شيء من الطاعات إلا بعد أن يتعلم أحكامها الشرعية وكيفيتها الصحيحة، والحمد الله أننا في زمن التقنية التي يسرت الحصول على المعلومة الشرعية الصحيحة وذلك من خلال المواقع الموثوقة، ومع ذلك يجب الحرص والتثبت قبل قبول ما تتناقله كثير من الرسائل عبر الهواتف والشاشات من أحاديث وأحكام لا يُعرف مصدرها، فللأسف كثير منها – مع حسن قصد من أرسلها - غير صحيحة ولا ثابتة شرعاً، فلنحرص في عباداتنا وأعمالنا على إخلاص النية لله تعالى وتعلم أحكام الإخلاص والحذر من الرياء والشرك الخفي الذي يفسد على المسلم أعماله، بحب الظهور والسمعة والشهرة ولفت أنظار الناس، ولنحرص على عباداتنا وأعمالنا بتعلم الأحكام الشرعية الصحيحة بالأدلة الثابتة.
وما أجمل قول من قال: "من لم يستطع الوقوف بعرفة، فليقف عند حدود الله الذي عرفه، ومن لم يستطع المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة الله ليقربه ويزلفه، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا لبيلغ به المنى، ومن لم يستطع الوصول للبيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد".
معاني وخواطر من الحج
2014/06/01
الرابط المختصر
Image