أضحى الاهتمام بالسلفية أمرا شائعا عند النخبة وعامة الناس، من المسلمين وغير المسلمين، منذ تصاعد المد الإسلامي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وزادت وتيرة الاهتمام عبر السنين مع انتشار السلفية والسلفيين، من جهة، وبسبب ما يُنسب للسلفية والسلفيين من جماعات وأحداث تقوم بها جماعات العنف والتطرف، والتي لُقبت -إعلاميا- ظلما وزورا بـ"السلفية الجهادية". وللأسف، فقد أصبحت هذه الجماعات المسلحة هي التي تتصدر عناوين الأخبار وتحتكر اسم السلفية، برغم عدائها الشديد للسلفية والسلفيين! مما قولب معنى السلفية عند العامة في الجماعات المسلحة.
وقد كان لهذا المزج الخاطئ والظالم دور كبير في قولبة معنى السلفية بشكل سلبي عند قطاعات واسعة من الناس. كما أن إهمال السلفيين وتقصيرهم في توضيح حقيقة السلفية لعموم الناس -بلغة واضحة ومعنى كاشف وآلية سليمة تصل وتخاطب الجمهور الواسع والمختلف المدارك والاهتمامات - كان لهما دور أساسي في شيوع الصور المغلوطة عن السلفية والسلفيين، خاصة مع كثرة الكتابات عن السلفية من أقلام مشهورة، لكنها تحمل أيديولوجيا مناوئة للسلفية والسلفيين، أو غير مدركة لحقيقة السلفية؛ لكون أصحاب هذه الأقلام يفهمونها من خلال منظور غربي علماني، يعمل على إسقاط مفاهيم الغرب (عن "سلفياته الذاتية") على السلفية الإسلامية. أو أن الكتابات جاءت من أقلام من تحولوا للاتجاه الإسلامي من اتجاهات غير إسلامية، ونصبوا من أنفسهم منظرين ومحللين في الشؤون الإسلامية، وأصبح ما يقدمونه هو الإسلام الوسطي والمعتدل والمستنير، حتى لو كان مناقضا لأسس الإسلام. ولذلك، يأتي نتاج هذه الأقلام في شرح وتعريف السلفية مجانبا للصواب في جوانب كثيرة ومتعددة، بغض النظر عن مقصد أصحابها عند تسطير هذه المغالطات ونشرها.
والنقاط المختصرة التالية هي بمثابة مساهمة سلفية في توضيح معنى السلفية للمهتمين من العامة والخاصة، في الداخل والخارج:
-السلفية نسبة للسلف، وهم في لغة العرب المتقدم والسابق؛ سواء في السنّ أو الفضل أو الموت. وبهذا المعنى اللغوي، فإن غالب الناس والجماعات والأديان سلفيون، لأنهم ينتسبون لشخص أو جماعة سابقة في الزمان أو الفضل. فالماركسيون سلفيون منتسبون لكارل ماركس؛ والديمقراطيون سلفيون منتسبون لديمقراطية أثينا قبل 2500 سنة.. وهكذا.
- مع ذلك، فإن الذي يميز السلفيين المسلمين عن غيرهم شيئان، هما: الأصول التي يلتف حولها سلفيو المسلمين، لأنها أصول لم يولدها الفكر البشري ولا الظروف التاريخية كحال غيرهم؛ إنما عمادها الوحي الإلهي الثابت بالبراهين العلمية، والذي (الوحي) انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
والشيء الثاني هو تحديد السلف بالصدر الأول من المسلمين، وهم أساساً الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون لهم وتابعوهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (رواه الشيخان). ويضيف بعض العلماء تابعي التابعين، وبعضهم يرى أن السلف هم من كانوا قبل سنة 500 هجرية.
بهذا، تتميز دائرة السلفيين بالاستمساك بوحي إلهي رباني محفوظ وثابت، يشمل القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، واتباع رفقة النبي صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم القرآن الكريم بالإيمان والفضل، إذ قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" (التوبة، الآية 20). ويتفق المسلمون وغيرهم على عدالة وعظمة وروعة الحضارة التي أقامها السلف (الصحابة والتابعون وتابعوهم)، والتي سعدت في ظلها البشرية بمختلف أديانها وألوانها ولغاتها. ويكفى أن نطالع كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه "شمس العرب تسطع على الغرب"، والذي نشرته وزارة الثقافة مشكورة ضمن سلسلة مكتبة الأسرة، لنعرف عظمة وقوة ورقي تلك الحضارة والمجد الذي يسعى المسلمون جميعا للوصول إليه في عالمهم المعاصر.
- في زمن الصحابة والتابعين، كان يختبئ بينهم منافقون ومبتدعة، فهل هؤلاء من السلف المقصود بالاتباع والاقتداء؟
بالطبع لا. ولذلك نلاحظ أن العلماء حين يطلقون كلمة "السلف"، فإنهم يقرنونها دائما بوصف "الصالح"؛ فيقال: السلف الصالح. وبذلك، يخرج من السلف أو القيد الزمني من عاش فيه لكنه كان منافقا لا يؤمن بالوحي الإلهي، أو من عاش في زمن السلف الصحابة والتابعين لكنه كان منحرفا عن سبيلهم إلى بدعة. إذن، فالسلف الصالح هو المتبع والمقتدى به عند السلفيين.
- هنا فإن ثمة سؤالا يطرح نفسه، وهو: بماذا نقتدي ونتبع من أحوال السلف الصالح؟
للأسف، يشِيع في هذا الموضع كثير من الأفكار المغلوطة، الأمر الذي ربما سببه سلوك بعض السلفيين الذي قد يكون غير معبر بشكل سليم عن السلفية، لكن يتم تعميم أخطاء فرد أو مجموعة على كل السلفيين، بينما حين يرتكب فرد أو جماعة من غير السلفيين نفس الفعل لا يعمم الحكم! فمثلا، كل الأفراد اليهود الذين اعتدوا على مقدسات المسلمين في المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي اعتبروا أفرادا مجانين، لا يعبرون عن غيرهم، برغم احتفاء اليهود بهم وتخليد أسمائهم وأفعالهم؛ وكذلك فتاوى مراجع الشيعة وجرائم الميلشيات الشيعية لا تأخذ صفة التعميم، برغم مساندة ودعم قطاعات واسعة من الشيعة لها، فلماذا هذا التحيز ضد السلفية بتعميم الأخطاء الفردية، برغم أن الإدانة السلفية لهذه الأخطاء واضحة ومعلنة؟!
كما قد يقع الفهم المغلوط للسلفية بسبب مفاهيم مسبقة عنها، من خلال رؤية معادية لها؛ إما من منطلق إسلامي مخالف للسلفية على المستوى العقائدي أو السلوكي أو الحركي، أو من رؤية غير إسلامية.
فمثلا، يشيع في الأوساط المثقفة إسقاط مفهوم الأصولية (Fundamentalism)على السلفية، برغم أن مصطلح الأصولية محمل برؤية غربية سلبية عن الأصوليين، بوصفهم رمز الوحشية والانغلاق والجمود ضد تطور الحياة، وذلك بسبب تقديسهم للإنجيل ورفض أي مطاعن علمية ضده، وتمسكهم الحرفي بكلماتٍ بشكل ظاهري، وعدائهم مع منجزات العصر.
ومنبع الخطأ هنا أن السلفية تستند لكتاب محفوظ يعترف أعداء الإسلام قبل أبنائه بسلامته من التحريف، وعدم مصادمته للعلم والواقع، بل هو دائما سابق العلم ومرشد له.
كما أن السلفية والسلفيين ليسوا من أصحاب المنهج الظاهري في الفهم لنصوص الوحي، بخلاف ما يشاع عنهم. فالسلفيون، ومنهم أئمة المذاهب الفقهية الأربعة، لم يكونوا ظاهريين؛ بخلاف ابن حزم وابن أبي داود الظاهريين. وابن حنبل وابن تيمية لم يكونا ظاهريين في المعتقد، بل كانا متبعين للمنطق القرآني. وقد عجز المخالفون للسلفية عن إثبات مثال واحد تبنت فيه السلفية مسألة عقائدية أو فقهية بشكل ظاهري بما يخالف الواقع أو العقل السليم أو العلم الصحيح، وهذا موضوع سنعود له في مقال كامل لاحقا.
إذن، الذي نتبع ونقتدي به من السلف الصالح ليس نوعية حياتهم ولباسهم وطعامهم وركوبهم، كما يظن البعض؛ بل نحن نتبعهم في طريق فهم الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، لأن هذه هي أكبر ميزة للصحابة والتابعين؛ وهي تلقي الشرح النبوي المباشر للوحي/ الإسلام، فكيف نقدم فهم غيرهم عليهم؟
وهنا قضية في غاية الأهمية، وهي أننا نتبع ما أجمع السلف الصالح عليه من فهم القرآن الكريم والسنة النبوية، لأنه حقيقة مراد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن السلف لصالح اختلفوا في بعض الاجتهادات وليس قول أرجح على قول إلا بدليل. وهذا يبطل تشويش بعض المغرضين الذين يقولون إن السلف مختلفون في الفهم فكيف نتمسك بفهمهم، ونقول له: نتمسك بالمتفق عليه بينهم وهو الغالب والأكثر، وما تفرقوا فيه فمن كان معه الدليل الشرعي اتبعناه للدليل.
وهؤلاء المغرضون، هل حين يدعوننا إلى ترك فهم السلف الصالح يقدمون لنا بديلاً لا اختلاف فيه بين أصحابه؟ فهل من يطلبون منا من داخل دائرة الإسلام، تقليد منهج عقدي أو مذهب فقهي لا يوجد خلاف واختلاف بل تناقض وتصادم في أقوال رموزهم؟ ومن خارج الإسلام، هل سلمت العلمانية أو الحداثة أو الديمقراطية من تناقضات ضخمة وتباينات صارخة؟ فلماذا هنا تقبلون الاختلاف والتعارض وهناك تشوشون وتعترضون؟
نحن نعلن أن الاتباع المطلوب للسلف الصالح هو في المتفق عليه بينهم، والذي يشكل القاسم المشترك الأكبر بينهم، والذي عليه حسن إسلامهم بشهادة الله ورسوله لهم، وحسنت دنياهم بشهادة الناس أجمعين لهم.
قد يظن البعض أن في هذا انغلاقا وجمودا، لكننا وجدنا السلف الصالح يتفاعل إيجابيا مع منجزات العصر المادية، ولو كانت من منتجات غير المسلمين، طالما أنها لا تتعارض مع مقاصد التوحيد والشريعة. إذ رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد اقتراح سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة، ووجدناه عليه الصلاة والسلام يتخذ ختماً لرسائله للملوك، تجاوباً منه مع مبادئ العلاقات الدولية. كما رأينا عمر الفاروق يقتبس نظام الدواوين من الروم. ثم أصبح المسلمون، وعلى رأسهم السلف الصالح، هم من ينتجون المخترعات للناس لتسهل حياتهم. واليوم، فإن السلفيين لا يعادون منتجات الحضارة والمدنية السليمة والصحيحة، بخلاف الأصوليين في الغرب.
ونجد أن منهج الصحابة في فهم الوحي يقوم على نشر المعرفة وعولمتها، والاجتهاد في الدين والدنيا، وعمارة الأرض وتسخيرها، ونشر قيم العدالة والحرية والكرامة والمساواة بين الناس.
إن التزام منهج السلف في فهم الوحي يحقق للأمة الوحدة، من خلال ربط الحاضر بالماضي المشرق في مفاهيم مشتركة، فمثلا: هل يمكن أن تختلف قيمة ومضمون خلق الصدق عبر أجيال المسلمين، مهما تعاقبت القرون؟ بالطبع لا. وكذلك قيمة ومضمون العقيدة الإسلامية والعبادات والشعائر لا تختلف، وتبقى ثابتة على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أن هذا الالتزام يحقق للأمة الوحدة اليوم في واقعها، من خلال جمع كلمتها على مفاهيم وعقيدة ومنهج وشعائر متوافقة ومتكاملة.
العجيب أن كثيرا ممن يَتهم السلفية بعدم التطور بسبب هذا الثبات، تجده مغرما بقدم بعض المفاهيم أو الطقوس الرياضية والفنية، ويرفض تطويرها ويعتبرها فولكلورا تجب المحافظة عليه!
حين نفهم هذا المعنى الشامل للسلفية؛ بأنه التزام للوحي وعلى طريقة السلف، ونستحضر شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة، ونستذكر منهج السلف في التعامل الإيجابي مع العالم بالدعوة والتعليم والجهاد والدفاع عن الحق، ستتضح لنا مدى جزئية نظرة كثير من الباحثين في وصف السلفية من خلال واقع محدد في زمن محدد.
فحين يقصر بعضهم السلفية على محاربة القبورية والشعوذة، فإنه مصيب في الوصف مخطئ في الاقتصار. ففي تلك المرحلة وذلك المكان لم يكن هناك مثلا في نجد تحدي استعمار أو غزو تغريبي حداثي، فكيف تنتقد عليهم عدم وجود أدبيات سياسية؟
وفي مكان آخر، نجد ابن باديس في الجزائر يركز على تعليم العربية وأساسيات الإسلام وأخر مقاومة الاحتلال الفرنسي، حتى كوّن جيلا من الجزائريين حمل الثورة ضد فرنسا لما قامت بعد وفاته. لكن يأتي متسرع ويقول إن سلفيي الجزائر منشغلون بالتعليم عن الجهاد، وما درى هذا المتسرع كم خسرت الأمة من إعلان الجهاد من قبل شعوب جاهلة وجماعات متعجلة.
وآخر يجعل السلفية قفزا عن الواقع، وإلغاء لمفهوم الزمان. وهذه مغالطة؛ فالسلفية لا تريد إرجاع الناس للحياة بأسلوب عصور سابقة، فليس من السلفية مثلا رفض الكهرباء والهاتف. السلفية تريد أن نحيا عصرنا بمخترعاته تحت منظومة قيم مطلقة؛ كالتوحيد والعدل والشورى.
وهكذا تبقى النظرات الجزئية للسلفية تشتت ذهن القراء، وتراكم صورة سلبية مغلوطة، بسبب عدم فهم شمولية السلفية للإصلاح بحسب الزمان والمكان والواقع، انطلاقا من الوحي الإلهي على منهج السلف الصالح في تلقي وفهم هذا الوحي. وهذا يفسر تعدد اهتمامات السلفيين، والتي يظنها البعض سلفيات متعددة، وهي سلفية واحدة، لكن كل منها يواجه تحديا مختلفا، فتختلف برامجها في العمل، وإن كانت متفقة في الأصول الفكرية والعلمية.
السلفية هي منهج فكري علمي، يلتزم الوحي الإلهي الثابت على طريقة السلف الصالح في فهمه، وبما يصلح حياة الناس ويسهل معيشتهم.
معنى السلفية
2014/10/01
الرابط المختصر
Image