ممارسات حضارية من زمن الصحابة!!

في الأسبوع الماضي ذكرنا بعض الأمثلة عن القيم الحضارية التي تعلمها الصحابة رضوان الله عليهم في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نقلوها للعالم أجمع.
وفي هذا المقال سنذكر بعض الأمثلة على ممارسات حضارية لا نزال نمارسها ونحن نتوهم أنها من مبتكرات زماننا وعصرنا، وأننا قمنا باقتباساها عن الحضارة الغربية، وهذه كله يرجع لنوع من الهزيمة النفسية تجاه الغرب، والذي تمكن بفضل مراحل طويلة من تجهيل المسلمين بتاريخهم وحضارتهم، بترسيخ صورة سيئة عن تاريخنا وخاصة مرحلة الصحابة الكرام، والذين يتخيل غالب المسلمين اليوم أنهم كانوا بشراً بسطاء أقرب للسذاجة والطيبة من الذكاء والتفوق، ليس لديهم حضارة أو مدنية، وليس لهم اهتمامات وانجازات مهمة على صعيد الفكر والسياسة والعمران والعلوم، وكل هذا باطل مخالف للحقيقة والتاريخ.
ومما رسخ هذه الفكرة المغلوطة عن عصر الصحابة الكرام، ترويج كثير من الكتاب لفكرة أن القرن الرابع الهجري هو عصر الحضارة والمدنية الإسلامية، وهذا راجع للمقياس المادي البحت الذي يقيس به المستشرقين وتلاميذهم الأمور، بخلاف النظرة الإسلامية الحقيقة والتي تعلى من شأن عمارة الأرض والتمتع بخيراتها، لكنها لا تجعل ذلك في المرتبة الأولى!!
فالمرتبة الأولى للحضارة في المنظور الإسلامي هو التمسك والتطبيق السليم بجوهر الإسلام وهو عقيدة التوحيد، التي تقوم على الإيمان بالله عز وجل خالق مدبر يستحق الطاعة والعبادة من كل ماسواه، فكلما اقترب المجتمع من عقيدة التوحيد كلما ازداد حضارة، وقد عرض القرآن أخبار كثير من الأمم التي بلغت في الرقي والمدنية شأواً بعيداً، حين تمسكت بعقيدة التوحيد، فأثمرت فيها تحرير إرادة الناس فشاع فيهم حب التعلم والجد في العمل، لكنهم بتطاول السنين وألف الرفاهية وانتشار الترف المفسد ضعفت فيهم عقيدة التوحيد فرتعوا في دركات الشرك والخرافة والوثنية، حتى انتشرت فيهم الذنوب والآثام مما قوض بنيانهم وهدم عروشهم.
ولذلك فإن عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده كان أكثر حضارة ورقياً، وإن كان أقل مدنية من العصور التي تلته، إن تعديل الصورة عن عصر الصحابة رضوان الله عليهم يكون بتعلم سيرتهم ودراسة مسيرتهم، دراسة تفصيلية تعنى بتفحص كيفية تعاملهم مع المستجدات وكيفية تطبيقهم للقرآن الكريم والسنة النبوية في واقع الحياة، وهو الأمر الذي لا تخلو منه مناهجنا المدرسية فحسب، بل وحتى مناهجنا الجامعية و حلقات العلم في المساجد ووسائل الإعلام المختلفة !! 
من الممارسات الحضارية التي ابتكرها الصحابة وخصوصاً عمر بن الخطاب فاروق الأمة رضي الله عنه، ما يلى:
1-  طلب تقديم كشف بأموال المسؤولين قبل استلام مناصبهم، وهو ما يعد اليوم من أرقى أساليب الشفافية ومحاربة الفساد، فقد كان الفاروق رضي الله عنه يحصى أموال الولاة قبل الولاية، ليحاسبهم على ما زاد فيها بشكل غير معقول، وكان يقول لهم: " إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً ".
2- كان الفاروق رضي الله عنه يؤمن بسياسة الباب المفتوح بين المسؤول والناس، حتى أنه حين سمع أن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه لجعل لمجلسه باب دون الناس في الكوفة، أرسل محمد بن مسلمة من المدينة إلى الكوفة وأمره بحرق باب سعد !! حتى لا تكون هناك حواجز بين المسؤول وبين الناس.
3- وخوفاً على قادته وولاته من قيام أعدائهم بعمليات تجسس عليهم أو اغتيال، منعهم من الزواج بنساء وفتيات البلاد التى فتحها المسلمون، لئلا يكون فيهن من تحمل عدواة أو حقد فتطلع على أسرار القادة وتفشيها، وهذا السلوك الأمني لا يزال معتمداً لليوم في أرجاء العالم، وبسبب التهاون في تطبيقه أصابتنا الكثير من الهزائم المعاصرة.
وقد خرجت علينا وسائل الإعلام مؤخراً بفتوى يهودية تبيح لليهودية إباحة شرفها للوصول لأسرار أعداء إسرائيل !!
4- إعفاء وحيد والديه من الخدمة العسكرية، قانون وضعه الفاروق رضي الله عنه امتثالاً لأمر الشرع الحنيف ببر الوالدين ورعايتهم، وحتى لا ينقرض نسل هذه العائلة باستشهاد ولدهم، وهذا القانون لا يزال معمولاً به لليوم.
5- تأمين معيشة الضعفاء والعجزة من المواطنين ولو كانوا من غير المسلمين، لأن هذا من واجبات الدولة ومن حقوق المواطنين عليها، فحين رأى الفاروق رضي الله عنه يهودياً عجوزاً يتسول، فقال: " والله ما أنصفناك إن أكلنا شبابك وأفنيناك، ثم أضعنا كبرك وشيخوختك"، فأسقط عنه الجزية وأمر له بعطاء من بيت المال. وهو ما يعادل اليوم تقريباً فكرة الضمان الإجتماعي.
فهذه نماذج سريعة من ما قدمه الصحابة رضوان الله عليهم للبشرية على الصعيد الحضاري في جوانب من السياسة والإدارة والعسكرية والرعاية الإجتماعية، ولا تزال البشرية لليوم تسير على منوال هذه السلوكيات والتطبيقات، رغم أن البعض يظن أنها من مبتكرات الحضارة الغربية. ما يجب أن نفهمه أن حضارتنا الإسلامية لليوم ترسل أشعتها بالضياء والرحمة والهداية من خلال ما يقدمه بعض أبنائها البررة، أو من خلال ما ترسب من نورها في الحضارة الغربية التي قامت على أكتاف حضارتنا !!
إن الغاية من إيراد هذه النماذج هو بيان عظم الحضارة التي بناها الصحابة الكرام بفضل التربية النبوية على مقاصد القرآن الكريم، ولاشك أن معايشتهم للنبي صلى الله عليه وسلم منحتهم أفضلية لا تجارى، لكننا نستطيع أن نبلغ مثلً ما بلغوا من حضارة ومجد حين نترسم خطاهم بالتربية على مقاصد القرآن ومفاهيم السنة النبوية.