منهج الصحابة أساس نهضة أوروبا !!

الرابط المختصر
Image
منهج الصحابة أساس نهضة أوروبا !!

مر معنا في مقالات سابقة عظم الإنجاز الحضاري الذي قام به الصحابة وخصوصاً الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم جميعاً، وذكرنا بعض النماذج الدالة على هذه الحقيقة مثل: إعلاء قيمة الحرية والكرامة البشرية في ظل الشريعة الإلهية، الحق والعدل هما ركني هذه الحضارة، تشجيع الناس على المشاركة وابداء رأيهم في القضايا العامة، مساواة الحاكم والمحكوم أمام القانون، الشفافية والوضوح أساس الحكم، كفالة المواطنين في حاجاتهم الأساسية ولو كانوا غير مسلمين، تشجيع البحث العلمي ورعايته ونشره للجميع، وكذلك تميز نموذج الدولة التي أسسها الخلفاء الراشدين، بوضع مبدأ سلطة الأمة في اختيار حكامها، وأن العلاقة بين الأمة والحاكم هي عقد بين طرفين.
وبينا أن هذه الحضارة التي أسسها الصحابة الكرام إنما أسسوها على هدايات الوحي الرباني المتمثل بالكتاب والسنة الصحيحة، وذلك من خلال فهم ثاقب لهما ومعرفة دقيقة بمراميهما وتطبيق سليم لمقاصدهما، ولذلك حين ألف الإمام الشافعي ( توفي سنة 204 هـ)، كتابه      " الرسالة " والذي أصل فيه لعلم أصول الفقه، كان عمل الشافعي هو جمع القواعد والأصول المتفرقة التي انتهجها الصحابة في فهم القرآن والسنة لبناء حضارتهم ودولتهم ونظمها في كتاب واحد ، أو بتعبير آخر قام الشافعي بإبرازها على شكل نقاط محددة بحسب ابن خلدون الذي يقول: " وأعلم أن هذا الفن – أصول الفقه- من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها ... فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة.. احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه".
فقد كان الصحابة يعرفون القياس والخاص والعام والمفهوم والنسخ والمتأخر والمتقدم والجمع بين النظائر واعتبار المصلحة وغيرها من قضايا وأصول علم أصول الفقه، وإن لم تكن معروفة لهم بالمصطلحات التي وضعت فيما بعد على يد الشافعي ومن بعده من الأصوليين.
وهذا كمثال علم النحو فالصحابة بسليقتهم اللغوية السليمة لم يكونوا يعرفون المصطلحات الحادثة لعلم النحو التي احتاج لها المسلمون فيما بعد بسبب توسع رقعة الإسلام ودخول غير العرب في الإسلام، فجاءت قواعد النحو لتجمع منهج الصحابة والعرب من قبلهم في اللغة ولم تكن اختراعاً جديداً.
ولعل من أبرز قضايا أصول الفقه هو "القياس" والذي يعرفة الأصوليين بقولهم: حمل فرع على أصل في حكم لعلة جامعة بينهما. والقياس يعد الدليل الرابع من أدلة الأحكام الشرعية، ومن الأدلة على شرعيته قوله تعالي: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان" (الشورى 17)، والميزان هو الذي توزن به الأمور وتقاس به، و حديث عمر قال: يا رسول الله أتيت أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قال عمر: لا بأس بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ففيم ؟" (رواه أحمد)، ويعد هذا تدريب عملي على " القياس" من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وخاصة الخلفاء الراشدين.
و"القياس" هو عملية اجتهادية تقوم على الاستقراء العلمي القائم على فكرتين أو قانونين، هما قانون العلية، وقانون الاطراد في الحوادث، فتحريم الخمر مثلاً معلل بالإسكار، ولذلك حيثما وجدت العلة وجد الحكم، وقد استخدم الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين "القياس" في كثير من المواقف التي واجهتهم وهم ينشرون دين الله ويقيمون حضارة الإسلام، وقد اثرى استخدامهم "للقياس" الفقه الإسلامي أيما إثراء.
ومنهج " القياس الإستقرائي" وقانونيه لم يقتصر استخدام الصحابة والمسلمون له في الأمور الشرعية، بل توسعوا في استخدامها في العلوم الطبيعية والطب وغيرها، وذلك استجابة لأمر الله عز وجل ورسوله للمؤمنين بطلب العلم والسعي للاكتشاف والبحث في الأرض والكون، وكانت هذه الأوامر الشرعية المفجّر الاساسي للنهضة العلمية في العالم الإسلامي، من خلال توجيه العقل إلى ميدان إنتاجه الحقيقي بالتركيز على العمل على تحقيق مصالح الواقع البشري، ومراعاة خصوصياته - بعيداً عن التهويم الخيالي في مجال الغيب- معتمداً على الخبر الصادق والتجربة والملاحظة، مما أنتج نهضة دينية أدخلت كثيراً من الشعوب في أنوار التوحيد وأنقذتهم من ظلمات الشرك والكفر، وأنتجت نهضة دنيوية بتسهيل وامتاع حياة الناس من خلال الإكتشافات العلمية والطبية وتطور العلوم والمعارف والصناعات.
وبقيت حضارة المسلمين وقوتهم بخير طيلة ما كانت هذه منهجية " القياس" الإجتهادية قائمة وفاعلة، فلما عم التقليد والتعصب المذهبي، وزعموا غلق باب الإجتهاد، غرق المجتمع الإسلامي في الجمود بسبب التقليد من جهة والتصوف الذي دعى الناس لترك العلم الشرعي والتجريبي والإقتصار على المعارف بالمنامات والأحلام من جهة أخرى، كما أن استشراء المنطق الأرسطي بين المسلمين على يد الغزالي الذي مزج المنطق الأرسطي بالعلوم الشرعية أحدث فساداً عظيماً لا زلنا نعاني منه، ورافق ذلك كله استشراء الفساد واللهو بين الحكام والقادة.
وقد كانت أوروبا في تلك الأثناء تقبع في الظلمات والجهل بفضل اعتمادهم على المنطق الأرسطي، والذي كان علماء الأصول المسلمين يعتبرون القياس في المنطق الأرسطي مجرد تمثيل لا يفيد سوى الظن، في حين أنهم اعتمدوا التجربة والملاحظة في اكتساب المعرفة بالظواهر المادية.
فلما حصل الإحتكاك بين أوروبا والمسلمين من خلال التجارة والحروب والسياحة والسياسة، والترجمة حيث يقول العلامة د.فؤاد سزكين: " كانت هناك مدارس – في طرابزون على الساحل الشرقي للبحر الأسود -  للترجمة في القرن الرابع عشر وكان أصحاب هذه المدارس يترجمون أحدث الكتب المؤلفة في العالم الإسلامي إلى اليونانية بدافع غيرتهم الدينية لمساعدة اخوانهم في أوروبا ".
فاقتبس الأوروبيين فكرة القياس الإستقرائي من المسلمين ومنهجية الملاحظة والتجربة، كما أنهم قاموا بحركة الإصلاح الديني – البرتوستانت – بتأثير من الشريعة الإسلامية، وهنا بدأ مشوار أوروبا مع التقدم، هذا المشوار الذي يقول عند الفيلسوف برتراند رسل: (فمنذ بداية القرن السابع عشر ترى كل خطوة تقريباً من خطوات التقدم العقلي مضطرة أن تبدأ بالهجوم على رأي من الآراء الأرسطية ولا يزال هذا يصدق على المنطق حتى يومنا هذا).
لكن الأوروبيين لم يعترفوا بفضل المسلمين عليهم فزعموا أنهم هم من إكتشف المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية، ولذلك علق على عقوقهم هذا العلامة سزكين بقوله: " كلما أمعن الإنسان النظر في دراسة المصادر الأصلية للنهضة الأوروبية ازداد تصوره أن هذه النهضة المزعومة أشبه ما تكون بالولد نسب إلى غير أبيه الحقيقي" !!
وهنا يجب أن نلاحظ أن حركة التقدم العلمي والنهضة الحضارية عند المسلمين كانت مدعومة بالدافع الديني والعاطفة الإسلامية، بينما كانت في حالة أوروبا نابعةً من العداء للدين المتمثل بالكنيسة!!
ولأن أوروبا اقتصرت في الإقتباس من المسلمين على المناهج العلمية والمعارف الطبيعية، فإنها تقدمت على الصعيد التقنى والمادي وتخلفت في مجال الدين والأخلاق فانتشر الإلحاد والإنحلال بينهم وتقوم سياستهم مع غيرهم على الظلم، وحصل للمسلمين العكس، فهم لا يزالون أفضل حالاً من الغرب في دينهم وأخلاقهم – بالجملة – ولكنهم بسبب ترك المنهج العلمي في الدين والدنيا الذي أصله لنا الصحابة تخلفت صناعاتهم وتراجعت قوتهم واضطربت أحوالهم.