من تاريخ المصحف الشريف

الرابط المختصر
Image
من تاريخ المصحف الشريف

بعد أن تعرفنا في المقالات السابقة على قصة جمع القرآن الكريم، تعالوا نتعرف على محطات رئيسية في مسيرة المصاحف وكتابتها ثم تقسيم المصاحف إلى أجزاء وأحزاب ومن ثم معالم تاريخ طباعة المصحف الشريف.
علمنا أن الصديق رضي الله عنه جمع القرآن الكريم في مصحف بعد أن استشهد كثير من حفظة القرآن الكريم في المعارك مع المرتدين، وأن الفاروق رضي الله عنه أرسل للأمصار معلمين للقرآن من كبار حفظة الصحابة، وأن عثمان رضي الله عنه وحّد المصاحف في البلاد الإسلامية بالنسخ عن مصحف الصديق.
وبقي الأمر كذلك حتى كثرت الفتوحات ودخلت أمم وشعوب كثيرة في الإسلام، وضعفت السليقة العربية بين الناس بسبب هذا الاختلاط الرهيب بين العرب والشعوب غير العربية، ولكن لحاجة الجميع للغة العربية وخاصة لقراءة القرآن، ولكون المصاحف مكتوبة بغير نقاط أو تشكيل رغم تشابه بعض الحروف، كانت العربية تكتب بدون نقط كما تثبت النقوش الحجرية قبل الإسلام، لأن العرب كانت لا تحتاج هذه الإضافات لقلة ما يكتبون، ولسليقتهم وفصاحتهم التي تغنيهم عن الحاجة لذلك، من هنا أصبح من الضروري علاج هذه المشكلة حتى لا يخطئ المسلمون الجدد في قراءة الحروف المتشابهة أو يلحنوا في أداء الكلمات على الوجه الصحيح فتتحرف المعاني.
وأصبح بعض المسلمين الجدد يخطئ أخطاء فاحشة في قراءة القرآن، وقد قام العلماء بوضع علم النحو من أجل التسهيل على المسلمين الجدد إتقان العربية، كما عملوا على تطوير اللغة العربية من ناحية شكل الحروف والإملاء، وهنا أصبح عندنا تباين بين الرسم العثماني في المصاحف وما تم تطويره من الإملاء والنحو، ولأن الأمة أجمعت على عدم تبديل الرسم العثماني للمصاحف وحرمة ذلك، أصبح هناك تحدٍ يواجه المجتمع الإسلامي وهو كيفية المحافظة على الرسم العثماني، وكيفية تيسير قراءته بشكل سليم للأجيال القادمة.
ولحل هذه المشكلة قام أبو الأسود الدؤلي (توفي 69هـ) وهو أحد العلماء والشعراء ورجالات الدولة في البصرة بوضع نقاط على الحروف تحدد طريقة نطقها، حيث اختار كاتباً ذكيا من بين ثلاثين كاتباً، وأمره بإحضار حبر (مداد) بلون مختلف عن لون حبر المصحف وقد كانوا يعتنون بكتابة المصاحف بخطوط جميلة، وغالبا ما كانت هذه النقاط تلون باللون الأحمر وتكون دائرة صغيرة كما في بعض مخطوطات المصاحف القديمة، ثم أمره أن يراقب حركة شفتيه أثناء قراءة القرآن، فإذا فتح أبو الأسود شفتيه يضع نقطة فوق الحرف، وإذا ضم شفتيه يضع نقطة بجانب الحرف، وإذا كسر الحرف فيجعل النقطة تحت الحرف، وإذا اتبع ذلك بغنة يضع نقطتين، وبهذا تم وضع مصحف كامل منقط، وهنا يجب أن نتنبه إلى مركزية التلقي الشفوي للقرآن الكريم وأنه هو الأصل وليس الكتابة.
وهذا التنقيط كان للحرف الأخير في الكلمة، لكونه أول ما وقع فيه الخلل في كلام الناس، لكن هذه نقاط حركات للحروف وليست النقاط التي نعرفها اليوم لتمييز الحروف من بعضها البعض والتي تسمى (الإعجام)، وهذه حقيقة مفهوم تنقيط أبي الأسود الدؤلي للمصاحف.
كانت طريقة الدؤلي هذه أول محاولة لتمييز حركات الأحرف، وبسبب طبيعة الزمان وعدم توفر وسائل التواصل السريعة، والنسخ اليدوي، قلد البعض طريقة الدؤلي لكن بتغيير مواضع وضع النقاط، ففي مكة مثلاً كان يضعون نقطة الفتحة قبل الحرف ونقطة الضمة فوق الحرف.
وبقيت طريقة الدؤلي سائدة مع ما فيها من مشقة بسبب استخدام نوعين من الحبر في الكتابة، حتى تطورت هذه النقاط لتأخذ شكلها الحالي الذي نعرفه على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض (توفي 170 هـ) الذي حول هذه النقاط إلى صورة مصغرة من الأحرف، فجعل الفتحة ألفا صغيرة لكنها منبطحة فوق الحرف، والضمة واوا صغيرة، والكسرة ياء صغيرة تحت الحرف، ثم اقتصر على جزء من الياء فأصبحت أشبه بالفتحة تحت الحرف، وسميت هذه الرموز بالشكل المستطيل، وأصبح نسخ المصاحف أسهل لعدم الحاجة للونين من الحبر، وأسهل في القراءة حيث لكل حركة رمز خاص بها وليست شكلا واحدة (نقطة) يختلف موضعها.
وبهذا أصبحت للأحرف العربية رموز إضافية توضح طريقة أدائها، وأصبحت تعرف بالتشكيل، ثم توسعت هذه الرموز فظهرت علامة السكون وعلامة المد وهكذا، وقد كان استخدام هذه الرموز في البداية في ما كتب من الشعر، ولذلك سمي (شكل الشعر) ثم استخدم في نسخ المصاحف وأصبح هو السائد.
ثم جاءت مرحلة تمييز الأحرف المتشابهة عن بعضها البعض حيث تشترك عدة أصوات مختلفة في شكل واحد، ففي زمن الخليفة عبد الملك بن مروان (توفي 86 هـ) قام بعض تلاميذ الدؤلي بوضع نقط للأحرف للتمييز بينها، وهذه النقاط كانت تكتب بنفس لون الحبر، وقد تطور وضع النقاط للحروف حتى استقر على شكلها المعروف اليوم، فمثلاً كانت الفاء والقاف والنون والياء تنقط إذا كانت موصولة بحرف أما إذا كانت مفصولة فلا تنقط لأنها لا تشتبه على القارئ! وكانت الشين عند بعضهم لها نقطة واحدة فقط، والقاف نقطة من تحت، وهو ما يزال معمولا به لليوم في المصاحف المغربية. 
وقد كانت الكاف لا تعرف إلا بشكلها بالخط الكوفي، ولما تم تطوير الخطوط العربية وأصبح حجم الكاف قريبا من حجم اللام وضع لها علامة تشبه الكاف الصغيرة لتتميز عن اللام إذا كانت في نهاية الكلمة ووضع لها شكلة في أعلاها إذا كانت في بداية أو وسط الكلمة، كما قام بعضهم باستخدام خطوط صغيرة بدلاً من النقاط، ولكن هذه الطريقة اندثرت، وسميت هذه النقاط بالإعجام.
ثم جاء وضع علامة خاصة للهمزات والسكون والتشديد والمد، وقد مرت علامة الهمزة (ء) بتقلبات كثيرة حتى استقرت على هذا الشكل.
بتنقيط المصاحف ثم استخدام علامات التشكيل وإعجام الأحرف بالنقاط، تم المحافظة على الرسم العثماني كما هو، وتم تسهيل قراءة القرآن على الوجه الصحيح.
وننتقل لجهود العلماء في تسهيل قراءة المسلم والمسلمة لوِردهما وحزبهما اليومي من القرآن الكريم، لأن القرآن جاء ليقرأ ويعمل به في كل وقت وفي كل شيء، فروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن حزبه أو شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنه قرأه من الليل"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحزبون القرآن بالسور سبعة أحزاب، فيختمونه في كل أسبوع.
ولذلك اهتم العلماء من زمن الحجاج بعدّ أحرف وكلمات القرآن الكريم باستخدام حبات الشعير، ومكثوا أربعة أشهر في ذلك، فبلغت كلماته سبعة وسبعين ألف كلمة وأربع مئة وتسعا وثلاثين كلمة (77.439)، وعدد حروفه ثلاث مئة ألف وثلاثة وعشرين ألفا وخمسة عشر حرفاً (323015)، أما عدد آياته فهو ستة آلاف ومئتتان وست وثلاثون آية (6236)، ومعلوم أنه 114 سورة، ووصل بعض العلماء إلى أرقام أخرى بفروقات قليلة، وسبب ذلك منهج العد هل الحرف المشدد يحسب حرفا أو حرفين، وهل نعد المكتوب أو المنطوق بالنسبة للحروف، أما الكلمات فهل حرف (عن، في، ..) يعد كلمة أم لا؟ 
وبناء على ذلك تم تقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، ومر ذلك بعدة أطوار لكنه استقر على تقسيمه كما يلي:
تقسيمه إلى ثلاثين جزءا ليقرأ في كل شهر مرة، وكان تحديد بدايات الأجزاء بحسب عدد الحروف، ولذلك نجد أن أجزاء القرآن متساوية في المقدار سواء في عدد الصفحات في المصحف أو في الوقت اللازم لقراءة أي جزء وتكاد تكون متساوية تماماً.  
ثم تقسيم كل جزء إلى حزبين، وكل حزب إلى أربعة أرباع، واعتمدوا في تقسيم هذه الأحزاب على عدد الكلمات، ولأن عدد أحرف الكلمات متباين تباين مقدار الحزب والربع.
والهدف من تحزيب القرآن الكريم تسهيل عملية الحفظ، ولذلك قام بعض العلماء بتحزيب القرآن إلى 360 حزباً، ليتمكن المسلم من حفظ القرآن الكريم في سنة واحدة.
وننتقل الآن إلى تاريخ طباعة المصحف والتي ساهمت في توحيد شكل المصحف وحجمه بعد أن كان مختلف الحجم والخط بسبب النسخ اليدوي.
معلوم أن اختراع آلات الطباعة كان في أوربا سنة 1431م، وهو العهد الذي كان فيه الاستشراق الأوربي في عنفوانه، وكانوا هم أول من طبع كتباً بالعربية، وبحسب موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي فأول مطبعة عربية كانت في روما سنة 1586م، وأول كتاب طبعته هو كتاب "القانون" لابن سينا في الطب وأنجز سنة 1593م، وفي أثناء طباعة كتاب القانون تم طباعة بعض الكتب العربية الصغيرة والإنجيل، وتعاون السلطان مراد الثالث مع المطبعة لطباعة كتاب "تحرير أصول أوقليدس"، لكن كانت طباعتها رديئة فتوقفت من سنة 1593م إلى سنة 1640م.
لكن طباعة القرآن بدأت بطباعة بعض سور القرآن مثل سورة يوسف سنة 1617م، ثم بعض السور في أمستردام سنة 1646، وغيرها، لكن أول طبعة للقرآن الكريم كاملاً كانت في سنة 1694م في ألمانيا. لكن د. بدوى يقول إن هناك مصادر أوربية تشير إلى أن القرآن طبع كاملا في مدينة البندقية سنة 1530م، لكن أحرقت جميع النسخ ولا أثر لها.   
ثم توالت الطبعات وطباعة فهارس للقرآن الكريم وتراجم للقرآن، لكن هذه الطباعة كانت مليئة بالأخطاء، حيث تجد كلمة مكان كلمة أخرى، أو وصل الحروف بما لا ينبغى أن توصل، وهذا بسبب ضعف المشرف بالعربية وقلة الخبرة والمراجعة.
وينقل د. صبحي الصالح عن المستشرق بلاشير أن أول طبعة إسلامية للمصحف كانت في سانت بترسبورغ بروسيا سنة 1787م قام بها مولاي عثمان، وبعدها تتابعت طباعة المصحف الشريف، وكانت مختلفة الحجم والخط بحسب حروف كل مطبعة، ولم تكن تلتزم بالرسم العثماني، مما استنكره العلماء.
وفي عام 1308هـ قام الشيخ المقرئ أبو عيد رضوان بن محمد المخللاتي بكتابة نسخة متقنة من المصحف وطباعتها في القاهرة أصبحت مرجع طبعات المصاحف في العصر الحديث، بسبب تخصصه في علوم القرآن الكريم ومباشرته نسخ المصحف بنفسه بدلا من الخطاطين الذين يجهلون أحكام كتابة المصاحف التي نص عليها العلماء.
ولكن مع إنشاء مجمع الملك فهد للمصاحف في المدينة المنورة سنة 1405هـ /1984م، تم نسخ مصحف خاص من قبل الخطاط الكبير عثمان طه بإشراف ثلة من العلماء وأصبح هناك مصحف موحد تقريباً في غالب أنحاء العالم، حيث صدرت ملايين النسخ من مصحف المدينة، والحمد لله رب العالمين.