من نماذج الدور الحضاري للصحابة الكرام

الرابط المختصر
Image
من نماذج الدور الحضاري للصحابة الكرام

إن الحديث بالتفصيل عن الدور الحضاري للصحابة رضوان الله عليهم يعد من السهل الممتنع، إذ أن هذا الدور كبير وواسع، ويكاد يشمل كل حركاتهم وسكناتهم، ولكثرة تكراره ومعرفة الناس به أصبج وكأنه أمراً عادياً لا يتوقف الناس عنده، فلذلك لا تعرف عما تتحدث وعما تتجاوز!
كما لا بد من التأكيد مرة أخرى أن هذا الدور الحضاري للصحابة الكرام هو نتاج التربية النبوية الفريدة، هذه التربية التي هي من أهم وظائف النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين" (الجمعة: 2).
الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يكشف عن بطنه الشريف لسواد بن غزية، حليف بني عدي بن النجار، حين نخزه النبي صلى الله عليه وسلم بعصا في بطنه، لأنه لم يستوِ في الصف، فقال سواد: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني؟ فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد.
سواد بن غزية هذا ليس من كبار الصحابة ولا من متقدميهم ولا من أشراف العرب، في ترجمته أنه حليف للأنصار وحضر بدراً، أي أنه أسلم بعد الهجرة وقبل بدر، فلم يمضِ على إسلامه إلا بضعة أشهر، لكنه وعى حقيقة الرسالة الإسلامية وأنها تقوم على "الحق والعدل"، فطلب القود والقصاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستنكفِ النبي عن ذلك بل كشف عن بطنه الشريف فورا، لكن سواد قبّل بطنه صلى الله عليه وسلم، وبيّن أنه أراد من ذلك أن يمس جلد النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة.
لقد تربى الصحابة هذه التربية النبوية الفريدة ونقلوها للدنيا بأسرها، التربية النبوية التي تقوم على الحق والعدل والكرامة والحرية من خلال العبودية لله عزوجل وحده، فهذا الفاروق رضي الله عنه يأتيه مصري قبطي نصراني يشكو ضرب ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه لولده، فلا يتردد الفاروق في استدعاء عمرو بن العاص، والي مصر، وابنه للمدينة ليقتص منه القبطي النصراني علناً أمام أهل المدينة، وأطلق الفاروق كلمته التي سجلها التاريخ بأحرف من نور: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، وذلك قبل حركات التحرير والثورة الفرنسية بأكثر من ألف سنة!!
أما أم هانئ، بنت عم النبي رضي الله عنها، فقد جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم تشكو له أخاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه يرفض إجارتها لصهرين من أصهارها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ" رواه البخاري.
فهذه الصحابية قد عرفت أن الإسلام كرمها وحررها ومنحها الأهلية التي منها حق الإجارة، ولم تقبل برفض أخيها وهو من كبار الصحابة، فأصرت على أن تنال حقها الشرعي فلجأت للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه المرجع الشرعي والسياسي، فنصرها النبي صلى الله عليه وسلم، في وقت كان العالم يعتبر المرأة نجسة ولا يعترف أن لها روحاً كالرجل!!
وبعد مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تداول الصحابة الكرام فيمن يلي أمر المسلمين، من خلال الشورى والحوار الذي شمل الجميع ولم يستثنِ أحداً، وهو الأمر الذي لم تعرفه البشرية آنذاك، فهي إما زعامة قبلية عند العرب، أو وراثة ملكية كحال فارس والروم، لكن الصحابة بدؤوا في إرساء نظام جديد وهو نظام الخلافة الراشدة، والذي يقوم على الشورى ومبايعة الناس للحاكم، الذي يستمد شرعيته من مبايعة الناس له، وأن الحاكم هو نائب عن الأمة ويقوم بخدمتها، وهو مقيد بأحكام الشرع لا يمكنه تجاوزها، بدلاً من الوضع الذي كان سائدا في أن الحاكم هو المتصرف في الأمة دون حسيب أو رقيب، ولا يوجد نظام أو دستور يقيد تصرفاته ويضبط قراراته، كما أن الأموال العامة ليست ملكه ولا حق له بالتصرف فيها حسب رغباته وأهوائه.
ومن هنا جاءت اجتهادات الصحابة في تقدير راتب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى يترك التجارة لأن الحكم والتجارة لا يجتمعان، بل هما من أكبر أبواب الفساد.
لقد بلغ راتب أبي بكر الصديق طيلة خلافته البالغة سنتين وثلاثة أشهر: ثمانية آلاف درهم، أي أقل من عشرة دراهم في اليوم!! ومع هذا فحين حضرته الوفاة أمر ورثته بإعادة هذا الراتب لبيت المال!!
وكذلك كان حال الفاروق حيث كان راتبه كخليفة للمسلمين ثوبين للصيف وثوبين للشتاء، وراحلة للحج والعمرة، وطعام بيته، وما يكون له من نصيب كبقية المسلمين في الغنائم.
هذا كان حال الصديق والفاروق في التعامل مع أموال الأمة في الوقت الذي كان الزعماء والملوك لا يفرقون بين أموالهم وأموال الدولة. 
إن هذه المواقف والسياسات الحضارية للصحابة والمستقاة من مشكاة النبوة هي التى فتحت قلوب الشعوب والأمم للإسلام، وهي التي جعلت هذا القبول راسخاً في وجدانهم لليوم لا يبحثون عن سواه بديلاً مع ما يلاقونه من عنت وشقاء. وللحديث صلة.