نحو ثقافة دينية شرعية رشيدة في زمن الشبهات والفتن (2-4)

الرابط المختصر
Image
نحو ثقافة دينية شرعية رشيدة في زمن الشبهات والفتن (2-4)

وبعد أن تبين لنا إن الثقافة الدينية الشرعية الرشيدة التي تحصن المسلم والمسلمة من كافة الشبهات الفكرية العصرية أو ذات الجذور القديمة تقوم على إدراك حقيقة دين الإسلام والتي هي يتوصل لها بحسب قول الأستاذ بسطامي سعيد في كتابه المتميز (مفهوم تجديد الدين): "إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك".
نشرع في تفصيل مختصر للمصدر الأول لحقائق الدين والإسلام وهي: موثوقية نصوص الوحي التي يقوم الدين عليها.
إذ الدين والإسلام والذي هو دين كل الأنبياء في تاريخ البشرية يقوم على تلقي الوحي الرباني من قبل الرسل والأنبياء وتبليغه للناس "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان واتينا داود زبورا" (النساء: 163).
ولذلك كان من أعظم الظلم والجرائم الكذب على الله عز وجل وادعاء بعض الدجالين النبوة وتلقى الوحي، قال تعالى: "ومن أظلم ممن أفترى على كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" (الأنعام: 93).
ولما كان الإسلام والرسالة المحمدية خاتمة الرسالات فقد تكفل الرحمن بحفظها وحفظ وحيها وهو القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى: "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: 9)، ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن السنة النبوية من الذكر الذي نزل من عند الله عز وجل أنها مشمولة بالحفظ الرباني، قال الآمدى في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام): "والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن".
والكلام في موثوقية وضبط النص القرآني كلام طويل لا يكفيه مقالات مطولة بل كتب ضخمة، ولذلك سأكتفى بإشارات تكفى المنصف وترشد المستكثر لمزيد من البحث والمطالعة، وقد سبق أن كتبت عدة مقالات بعنوان "قصة جمع القرآن الكريم" بينت فيها تفاصيل تكوين لجنة علمية لعملية جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد أن كانت صحف متفرقة مكتوبة على أشياء مختلفة من الجلد والعظم وعسب النخل والخشب وغيرها، وأن هذه اللجنة كان لها منهج علمي في غاية الدقة والموضوعية في مقارنة المكتوب من القرآن الكريم مع المحفوظ في الصدور، علماً أن الحفظ والثقافة الشفوية هو الأصل في ثقافة العرب وغيرهم من الأمم في ذلك العصر.
والتركيز على وثوقية ضبط القرآن الكريم كان منهج سائد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه رضوان الله عليهم، فهذا عمر الفاروق حين سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة "الفرقان" بخلاف ما حفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك به من ثيابه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت هذا يقرأ سورة "الفرقان" على غير ما أقرأتنيها! فقال رسول الله: "أرسله، اقرأ" فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ; فقال رسول الله: "هكذا أنزلت" ثم قال لي: "اقرأ" فقرأت فقال: "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه". متفق عليه.
وقد تطورت مع الزمن كثير من العلوم المساعدة لتوثيق وسلامة النص القرآني فظهر غعجام الحروف بالتنقيط حتى لا تختلط على غير العرب ثم ظهر التشكيل للحرف ثم نما علم الرسم العثماني للقرآن الكريم وتقسيم القرآن الكريم لأجزاء وأحزاب وهكذا.
وكانت نتيجة ذلك اعتراف العلماء المنصفين من كل ملة ودين بسلامة القرآن الكريم من النقص والزيادة أو التحريف والتبديل، بخلاف الكتب السماوية السابقة التي يعترف أهلها بوقوع التبديل والتحريف والنقص والزيادة فيها والتناقض، وهناك كتب وأبحاث عديدة تفصل دقائق هذا المنهج العلمي الفريد الذي أكرم الله عز وجل المسلمون.
أما السنة النبوية فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بعلم الإسناد والتراجم بما يميزهم عن كل الأمم والشعوب، وبهذه العلوم وما تفرع عنها تمكن المسلمون بحفظ السنة النبوية وحملها للبشرية جمعاء ليوم الدين، من خلال عقلية عبقرية ابداعية فصلت شيء منها في مقالات سابقة بعنوان "عبقرية علماء الحديث".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو من ارسى منهج الدقة والتثبت والإتقان في تلقي السنة النبوية بين أصحابه، فحين كان البراء بن عازب يتعلم من النبي الله صلى الله عليه وسلم دعاء ما قبل النوم أخذ يردده حتى يحفظه فأخطأ في كلمة بسيطة فجعل محل كلمة نبيك كلمة رسولك، فرده النبي وأصلحها له! يقول البراء: قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة"، قال البراء: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال عليه الصلاة والسلام: قل: "آمنت بنبيك الذي أرسلت" رواه مسلم.
ومن مظاهر توثيق السنة النبوية بمنهج علمي أن الرحلة والسفر لطلب تعلم السنة النبوية والتوثق من صحتها بدء من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا جابر بن عبد الله يسافر على ناقته في الصحراء مسيرة شهر ليسمع حديثاً واحداً من عبدالله بن أنيس لم يكن سمعه جابر من النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر!
وهذا أبو بكر الصديق يتثبت في صحة الحديث حين حدثه المغيرة بن شعبة عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة سدس الميراث، فقال له الصديق: "هل معك غيرك" فشهد معه محمد بن مسلمة.
ومن نهج الصحابة والسلف كانت انطلاقة العلوم الشرعية المختصة بالتوثق من الروايات النبوية وفحص سلامتها وطرح الدخيل عليها أو تصحيح الخطأ والوهم المختلط بها.
وقد بلغت علوم توثيق السنة النبوية تفريق العلماء بين روايات الراوى الواحد بحسب عمره فيقبلون حديثه في مرحلة عمرية معينة ويرفضون حديثه في مرحلة أخرى! وقد يقبلون حديثه إذا حدث عن كتاب ويرفضون حديثه من ذاكرته لسوء حفظه أو تغيره من السن! وقد يقبلون حديثه عن شيخ أو راوى معين ويرفضون حديثه عن غيره من الشيوخ أو الرواة لعدم طول اللقاء به والتثبت عنه!
في الختام هذه إشارات في بيان الدقة البالغة في توثيق نصوص الوحي الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية هي حقيقة ساطعة يحق للمسلمين الإفتخار بها على كل أمم الدنيا، ويلزم أن تكون هذه قناعة وثقافة دينية شرعية أصيلة لا تقبل أي تشكيك أو طعن، ويلزم أن تتوسع وتنتشر بكثافة الأبحاث والمقالات والكتب التي تقرب هذه الحقيقة لعامة المسلمين بكل وسائل التعليم ونشر الأفكار وبكافة اللغات لسد الطريق على طوفان الشبهات والإفتراءات على الإسلام والشريعة الغراء.