نحو ثقافة دينية شرعية رشيدة في زمن الشبهات والفتن (3-4)

الرابط المختصر
Image
نحو ثقافة دينية شرعية رشيدة في زمن الشبهات والفتن (3-4)

لا زلنا نستعرض مصادر الحقائق الدينية في الإسلام، وهي كما ذكرها الأستاذ بسطامي سعيد في كتابه المتميز (مفهوم تجديد الدين): "ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدَّد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك".
في الأسبوع الماضي تناولنا تفرّد منهج توثيق النصوص الشرعية في الفكر الإسلامي على سائر الأديان بموضوعيته وعلميّته ودقته، واليوم نعرض المنهج العلمي الدقيق في فهم النصوص الشرعية، والمتمثلة في الوحي الرباني من القرآن الكريم والسنة النبوية.
من المعلوم بداهةً للعقول أن الغاية والقصد من المخاطبة والكتب فيما بين الناس هو الإعلام والتعريف والتعليم، فإذا انتفت هذه الأمور عن الخطاب أو الكتب فلم تفد خبراً أو معلومة أو تعليماً أو أمراً ونهياً أو لم تُفهم أصلا أصبحت باطلاً ولغوا لا قيمة له، وهو ما يتنزه عنه العقلاء والأدباء والقادة، فهل يعقل أن يكون الخطاب الإلهي والوحي الرباني غير مفهوم، ولا يُعرف مراده ولا يحصل به الإعلام والتعليم والأمر والنهي؟؟ بالطبع سيكون جواب العقلاء والمنصفين: كلا، وسيتفقون على أن الخطاب الإلهي والوحي الرباني يجب أن يكون في غاية الوضوح ومنتهى الفهم والإدراك حتى تحصل به الفائدة وتتحقق به الغاية.
وهذا ما قرّره القرآن الكريم بكل وضوح من أن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تبليغ الناس الوحي بألفاظه ومعانيه، كقوله تعالى: "لتبيّن للناس ما نُزل إِليهم" (النحل: 44)، وهو ما أكده ربنا في عدة مواضع من أن الغاية هي تدبر وفهْم الوحي، قال الله تعالى: "كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبروا آياته" (ص: 29)، وقال جلّ وعلا: "أفلا يتدبرون القرآن" (النساء: 82)، وقال أيضاً: "أفلم يدّبروا القول" [المؤمنون: 68]، وكذلك قال تعالى: "إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" (الزخرف: 3)، ومعلومٌ أنه لا تكليف إلا بمقدور، فتدبّر القرآن وتعقله أمر ممكن لأن طبيعة الوحي الرباني للرسل جميعاً أنه بلاغ مُبِين لقوله سبحانه وتعالى: "فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" (النحل: 35).
ولا شهادة أعظم من شهادة الله عز وجل في القرآن الكريم بتمام الدين وبرضاه عن اكتمال الوحي واكتمال الفهم للدين في قوله تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة: 3)، وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها" رواه ابن ماجة وصحّحه الألباني.
وأركان منهج الفهم النبوي وتعليمه للصحابة معاني الوحي والنصوص الشرعية يقوم على تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم كتصحيحه صلى الله عليه وسلم لمفهوم الظلم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" (الأنعام: 82) قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون، "لم يلبسوا إيمانهم بظلم": بِشرك، أوَلم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: "يا بنيّ لا تُشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم" (لقمان: 13) رواه البخاري.
أو على تصحيح الفهم من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما في حوار أم المؤمنين عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي نقله البخاري إذ كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حوسب عذّب" فقالت عائشة: أوليس يقول الله تعالى: "فسوف يحاسَب حسابا يسيرا"، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك".
أو على معاني اللغة العربية المعروفة في زمنهم وسياق الكلام، كما في قوله تعالى في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام "واسْأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها" (يوسف: 82) فليس المقصود قطعاً سؤال الجدران والإبل! بل سؤال سكان القرية وأهل القافلة، كما يقتضي سياق الكلام العربي المعهود.
ومن هنا نجد أن الصحابة الكرام يصرحون بأنهم قد تعلموا الدين كله من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يستهزئ به بعض المشركين فيقول له: قد علّمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة. فقال له سلمان: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم. ولليوم لا يزال (العالم المتحضر) لا يحسن الطهارة فتشيع النجاسة ونتنها من أبدانهم وثيابهم!!
ولم يقتصر تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعده على أحكام الدين، بل علّمهم وأخبرهم بما هو كائن في الغيب والمستقبل القادم، فعن أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسولُ الله الفجرَ، وصَعدَ المِنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلّى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلّى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غَرَبَت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائنٌ، فأعلَمُنا أحفَظُنا. رواه مسلم، ولا تزال الوقائع تؤكد صدق أخبار السنة النبوية وصدق نقل وحفظ رواة السنة عبر الزمان.
ولم يقتصر الصحابة على هذا الفهم لأنفسهم بل نقلوه للتابعين من تلاميذهم، وأصبح هذا هو نهج التعليم من بعدهم عبر الأجيال، فنقل لنا الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره قول أبي عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا". ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يبقون مدة في حفظ السورة، فابن عمر مكث في حفظ سورة البقرة عدة سنين.
وروى ابن أبي مليكة، قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله.
وبهذا يتأكد لنا الوحي الرباني قرآناً وسنة بلغه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بألفاظه ومعانيه، وهم نقلوه للبشرية والدنيا جمعاء، وأن حقائق الدين معلومة مبثوثة، ومعانيها معروفة بمعرفة معاني الوحي ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن هنا يتبين لنا مركزية التراث العلمي الشرعي القائم على الأحاديث والروايات النبوية والآثار عن الصحابة وسلف الأمة، والتي تتداول الفهم النبوي السليم للوحي الرباني، وبذلك تتحقق البشارة بالهداية في قوله تعالى: "فإن آمَنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا" (البقرة: 137).