نحو ثقافة فاعلة في محاربة الغلو والتطرف

الرابط المختصر
Image
نحو ثقافة فاعلة في محاربة الغلو والتطرف

أصبح الحديث عن محاربة الغلو والإرهاب يحتل مساحة كبيرة في وسائل الإعلام ويشغل بال الكثيرين من المهتمين بالشأن العام في كافة القطاعات، وتقام من أجله كثير من الفعاليات والأنشطة الرسمية والأهلية، ومساهمة في ترشيد هذه الجهود وحتى تأتي أكلها يلزم أن نشير لعدة ملاحظات مهمة في هذا السياق، وهي:
1- لا يقتصر الغلو والإرهاب على المجموعات الإسلامية المتطرفة المسلحة، سواء في بلادنا أو في العالم، بل هناك العديد من المجموعات غير الإسلامية هي مجموعات إرهابية ومتطرفة كجماعات المستوطنين اليهود في فلسطين والمليشيات الشيعية الطائفية، والمجموعات العنصرية المتطرفة في أوربا والميلشيات المسيحية والبوذية وغيرها، وهناك أيضا دول تمارس الإرهاب كإسرائيل وإيران، وهناك أيضا الغلو والإرهاب العلماني والإلحادي المتمثل بفرض إقصاء الدين عن الحياة.
2- الغلو والتطرف في الدين والإسلام ينبعان من الجهل والطمع المادي، وقد تعرض لهما النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء بعض الناس واستقلّوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فوبخهم وأرشدهم للاعتدال في العبادة، وحين اعترض الأعرابي الجاهل الطماع على قسمة النبي للغنائم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة العدل في قسمته، ولليوم نجد أن من يلتحق بداعش صغار السن وحديثي الالتزام في الغالب، ونجد دعايات داعش لبعض الشباب تركز على إطماعهم في الغنائم من الأموال والنساء!
3- الغلو والتطرف الإرهابي الدموي المنسوب للدين وللإسلام هو شيء وافد على الدين والإسلام، وكان الإسلام وخيرة المسلمين أول ضحاياه كالخليفة الثالث عثمان بن عفان ذي النورين والخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد شغب عليهما ابن سبأ اليهودي الغوغاء حتى قتلوهما، وهو ما يقوم به التطرف والإرهاب اليوم من قتل العلماء والدعاة والثوار أولاً بحجة أنهم مرتدون وقتلهم أولى من قتل الكافر الأصلي!
4- لقي الغلو والتطرف والإرهاب ترحيباً من قبل المستشرقين وتلاميذهم من العلمانيين منذ عقود طويلة! لأنهم يعرفون مدى فائدة الغلو والتطرف في زعزعة استقرار بلاد الإسلام وتمرير مخططاتهم الهادفة للسيطرة عليها.
فالمستشرق الهولندي فان فلوتن يعتبر الخوارج جمهوريين! أما المستشرقون الإنجليزي إدوارد براون والهولندي رينهات دوزي والروسي ي. بلياييف والمجري جولدتسهير فيعتبرون الخوارج ديمقراطيين! وقد أنكر عليهم ذلك المستشرق الفرنسي إ.ف. غوتييه، وعدّها مبالغة كبيرة. 
أما تلاميذ المستشرقين فنجد د. نايف معروف يأخذ الدكتوراه عن رسالته "الخوارج في العصر الأموي" من الجامعة اليسوعية ببيروت، وتطبعها دار الطليعة سنة 1977م، ويقابلها رسالة دكتوارة أخرى للطيفة البكاي حصلت عليها من جامعة تونس سنة 1996م وطبعتها أيضاً دار الطليعة ببيروت سنة 2001م، وأشرف على الأطروحة هشام جعيط المنظر العلماني المعروف، وكلا الرسالتين تريان أن الخوارج حركة سياسية معارضة للحكم الأموي تلبست بالدين بسبب استبداد السلطة! وأن التطرف الديني في الخوارج سببه زيادة التعلق بالقرآن كما تستخلص لطيفة في خاتمة رسالتها!
5- تم ومنذ زمن طويل ولا يزال اختراق كثير من هذه المجموعات من دوائر الأمن المحلية والإقليمية والعالمية لتمرير مخططاتها، فعلى المستوى المحلي اخترق الأمن المصري جماعة شكري مصطفى (التكفير والهجرة)، واتهم وزير الداخلية حبيب العادلي بتدبير تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية في أول يوم من سنة 2011م، ولا تزال القضية منظورة في المحاكم المصرية، وفي الجزائر حيث تلاعب جنرالاتها بجماعات العنف والتطرف الجزائرية.
وعلى الصعيد الإقليمي ففي كل يوم يتم الكشف عن اختراق إيراني لتنظيم القاعدة وداعش في السعودية واليمن وسوريا، ولعلّ من آخرها ما كشف عنه من وثائق ابن لادن في أبوت أباد عن ترتيبات مع إيران لتسهيل حركة أفراد وأموال تنظيم القاعدة، ويلحق بهذا صدور قرار من محكمة أمريكية بتغريم نظام بشار الأسد لتورط مخابراته في تفجيرات فنادق عمان سنة 2005م التي تبناها تنظيم أبي مصعب الزرقاوي في العراق! مما يتطابق مع شكوى نوري المالكي سنة 2009م -قبل تحالفهم الجديد- من دعم بشار الأسد لتنظيم القاعدة في العراق!
أما الاختراق على المستوى الدولي لجماعات العنف فأبرز مثال له اختراق المخابرات الروسية للمجموعات المتطرفة الشيشانية والداغستانية الداعشية في سويا، والتي تقوم بحماية أنابيب الغاز التابعة لنظام بشار تحت علم داعش!!
6- المعرفة الدقيقة والفهم الصحيح للغلو فكراً وسلوكا،ظاهراً وباطناً (الاختراق) هو الطريقة الوحيدة لمعالجة سديدة لهذه الظاهرة الخطيرة، يقول المحقق الأمريكي من أصل لبناني علي صوفان الذي تعامل طويلاً مع معتقلي القاعدة في كتابه "الرايات السود: مطاردة القاعدة": "إن معرفة طريقة تفكير الإرهابيين وانقساماتهم الداخلية هي أفضل وسيلة للتحكم بهم"!! وللأسف هذا ما تفعله دوائر المخابرات العالمية حيث تدير لعبة الإرهاب بما يعود عليها بالنفع والفائدة.
بعد هذه الملاحظات التي أعتقد أهميتها وضرورة اصطحابها في معالجة ظاهرة التطرف ليمكن بناء ثقافة فاعلة وسليمة في محاربة الغلو والإرهاب، وهي تقوم على محورين هما:
1- نشر العلم والمعرفة الصحيحة بالأسس والمفاهيم والأصول التي يحرفها دعاة الغلو والإرهاب ويجذبون بها الشباب للهاوية. فللأسف فإن كثيرا ممن يفترض بهم الوعي والقدرة على تفكيك أباطيل الغلو والتطرف والإرهاب من الخطباء وأئمة المساجد وأساتذة الجامعات والمثقفين ليست لديهم تلك المقدرة!
فلا يوجد لدينا في مناهج كليات الشريعة مادة خاصة بمعالجة شبهات وأباطيل وتلبيسات دعاة الغلو والتطرف، ولا يتوفر في السوق كتب تعالج هذه الشبهات بدقة وقوة، ولا مكتبة الأسرة التي تشرف عليها وزارة الثقافة تهتم بإدراج كتب في هذا المجال، ولا قنواتنا الإعلامية تبث برامج محترفة في تفنيد هذه الأفكار وتحصين المجتمع من أخطارها.
فكيف إذن سنوجد ثقافة إسلامية أصيلة تنبذ الغلو والتطرف ونحن لا نبذر المعرفة الصحيحة للمعالجين فضلاً عن عامة الناس، بل للأسف يركب موجة محاربة الغلو والتطرف أناس يدْعون لمزيد من الجهل بالإسلام والدين عبر إقصاء القرآن الكريم عن مناهج التعليم وعلمنته بالكلية! ومؤخرا خرج علينا سفير سابق من خلفية يسارية على شاشة إحدى القنوات المحلية يشتم ويحقر من العلماء والدعاة لأنهم لا ينشرون الإسلام التنويري!
إن الكثير من الشباب حين يتأثر بفكر الغلو والتطرف لا يجد من يحاوره بكفاءة ويفند له الأباطيل ويجنبه وأهله والمجتمع هذا المسار المهلك والمؤذي، والسبب هو الجهل بأباطيل الغلو والعجز عن الرد عليها، ليس لأنها قوية بل لأنها لم تُدرس ولم يعط الناس الوقاية المسبقة منها.
مشكلة أفكار الغلو والتطرف أنها تروّج بذكاء وحنكة لمفاهيم إسلامية راقية كالجهاد وتحكيم الشريعة والعزة الإيمانية، وتخلط ذلك باللعب على عواطف الشباب والغيورين فتجذبهم.
لكن هؤلاء الشباب للأسف لم يصل إليهم الخطاب الصحيح لهذه المفاهيم أولاً، الخطاب الذي لا يخلط هذه المفاهيم الراقية بأفكار مناقضة للإسلام ذاته مثل عدم النظر في المآلات والتكليف بما لا يطاق ومخالفة السنن الكونية، وهو الشيء الذي أدركه كثير من قادة وأفراد تنظيمات الغلو والتطرف بعد سنين طويلة عبر ما عرف بالمراجعات أو التراجعات.
يجب أن نعمل على نشر الثقافة الصحيحة حول مفاهيم الإسلام التي حرفها دعاة الغلو والتطرف ونسبق بها إلى الشباب لنحصنهم من التأثر بدعاياتهم البراقة، التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يقولون من قول خير البرية".
ويجب أيضاً أن ننبه الشباب أن أفكار الغلو والتطرف ليست مستقرة عند أصحابها، بل هم -فوق مخالفتهم للحق جميعا- مختلفون مع بعضهم البعض، بل يكفر بعضهم بعضاً، ومختلفون في الأفكار والعقائد، وقد جمع الشيخ غالب الساقي في كتابه "التنوير في نقض الغلو والتكفير والتفجير" عددا من هذه التناقضات والردود من دعاة الغلو أنفسهم، ومن الكتب الحديثة التي صدرت في هذا الباب كتاب محمد توفيق "النقد الذاتي عند الإسلاميين، 1-التيارات القتالية" وقد صدر عن مركز نماء سنة 2015م، والخلاصة التي خلص إليها: "تتقاطع موضوعات الخطاب النقدي بسمتين، الأولى هي سمة الضعف العلمي "النسبي" من جانب التأصيل، ومن جانب البناء الفكري والشرعي، بينما تتعلق السمة الثانية بقصور في الوعي بالواقع وقوانينه وأدواته ومتغيراته"، ونشر الدكتور سلطان العميري جزءا من كتابه القادم "أغلاط التكفير" كشف فيها عن صراع وتناقض أهل الغلو في مسائل العقيدة التي يتهمون مخالفيهم فيها بالتفريط لدرجة أنهم خرجوا من الإسلام، فإذا هم مختلفون فيها اختلافاً كبيراً.
2- تعريف الشباب والناس عامة بالنتائج الكارثية لتطبيقات هذه الأفكار الغالية والمتطرفة والمتناقضة، فهم أيضاً مختلفون في المواقف والتحركات وخلافهم يتحول لقتال واغتيالات وتفجيرات. ومؤسف أيضاً أن كثيرا من الشباب الذي ينخرط في هذا المسار هو جاهل تماماً بالكوارث التي جرها هذا التيار على أمة الإسلام في كل الدول التي دخلها، وكيف أنه حقق للأعداء أجمل أمنياتهم، ويكفي أن نتأمل حال سوريا والعراق، وهل كان بإمكان إيران وبشار إبادة الأبرياء لولا معاونة داعش لهم باغتيال قيادات المقاومة وشباب الثورة ومهاجمة الثوار من الخلف كلما اشتبكوا مع القتلة والسفاحين؟
كثير من الشباب إذا فهم هذه الحقيقة ستتلاشى الهالة الضخمة التي يتصورها عن دعاة (الجهاد) و(الخلافة) و(تحكيم الشريعة) وسيرى الحقيقة أنهم متهورون مختلفون متناقضون، ولعل في كتاب أبي مصعب السوري "مختصر شهادتي على تجربة الجزائر" والتي نقد فيه أبا قتادة الفلسطيني نموذجا مثاليا لهذا التشرذم والتناقض في صف دعاة الغلو، ويمكن مطالعة كتاب "القاعدة وأخواتها" لكمال الطويل، وكتاب "القصة الكاملة لخوارج عصرنا" لإبراهيم المحيميد لمعرفة جوانب من هذه الكوارث المظلمة والمسار التاريخي الذي تطور فيه الغلو.
في النهاية: إذا تمكنا من بناء برنامج تثقيفي يفكك تلبيسات أهل الغلو والتطرف من جهة، ويحذر من النتائج الكارثية التي نتجت عن أفعال هؤلاء في جنبات العالم الإسلامي، يستهدف فيه بداية الخطباء والأئمة وأساتذة كليات الشريعة والإعلاميين وأمثالهم ممن لهم صلة مباشرة بالشباب، ثم يعمم على كافة أبناء المجتمع بالندوات والمطبوعات والبرامج الإعلامية أعتقد أنه سيكون عندنا ثقافة سليمة محصنة من أفكار الغلو والتطرف والتي ستبقى تهاجمنا موجةً بعد موجة لأنها أداة فعالة بيد الخصوم!